العدد 1715 - الخميس 17 مايو 2007م الموافق 29 ربيع الثاني 1428هـ

التجديد الفقهي وأصول الاستنباط

الشيخ حميد المبارك hameed.almubarak [at] alwasatnews.com

غالبا ما تثير الدعوة إلى تطوير الاجتهاد قلقا لدى البعض من حيث إيحائها بالخروج على ضوابط وأصول الاستنباط المتعارفة في الحوزات والمعاهد العلمية.

ولكن يجب أن لا يوجد مبرر للقلق إذا كان المقصود هو تطوير أدوات الاستنباط ضمن ضوابط تلك الأسس وداخل أطرها، فمثلا في مجال البحث الدلالي لا ينبغي الاكتفاء بالبحث عن معنى الكلمة الواردة في النص ضمن القاموس اللغوي كما إنه لا ينبغي الاكتفاء بالمعنى المتبادر الآن، بل يجب البحث في موارد الاستعمال في النصوص ذاتها للتعرف على الاصطلاح الحقيقي للكلمة في لسان النبي أو الإمام وهو ما يسمى في علم الأصول (الحقيقة الشرعية أو المتشرعية) كما صنع الشهيد محمد باقر الصدر في بحثه الفقهي حول الآية الكريمة «إنما المشركون نجس» (التوبة: 28) لاحظ بحوث في شرح العروة الوثقى ج1.

ومن اللازم في مجال البحث المضموني التوقف بجدية عند بعض الإشكاليات نظير التقطيع في بعض المتون الحديثيّة، ونظير ضياع الكثير من أسباب النزول ومناسبات الصدور، ونظير الغموض في التفكيك بين النصوص التعبدية والإرشادية، ولكن من اللازم معالجة هذه الإشكاليات داخل قواعد العلم وفي مساحته فحسب، ولذا لا يجوز أن يراد بالبحث المقاصدي ما يساوي اللجوء الى التخمين والظن غير المنضبط، بل يراد به البحث عن المقصود الحقيقي من النص استنادا إلى قرائن وإن كانت غير منصوصة لكنها معتبرة عقلا أو عقلائيا، من قبيل ما ادعي في قضية النهي عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه، وأنه بداعي تجنب النزاع والخصومة التي تحصل بين المتعاملين وذلك بقرينة الظرف الذي صدر فيه النهي (مدونة الفقه المالكي وأدلته للدكتور الصادق عبدالرحمن الغرياني، المعاملات، بيع الأصول والثمار) ومن قبيل ما قرره المرحوم الشيخ محمد جواد مغنية في بحث الزكاة من عدم اشتراط النقدين أي الذهب والفضة المسكوكين في وجوب الزكاة، وذلك لأننا نعلم علم اليقين أن علة الزكاة في النقدين موجودة بالذات في النقود الورقية وهي أن يكون للفقير سهم في مال الغني «كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم» (الحشر: 7) فليس ذلك التعميم استنادا إلى قياس ظني محرم بل هو استناد إلى مناط معلوم إن لم يكن منصوصا فهو بمنزلته - فقه الإمام جعفر الصادق بحث زكاة النقدين تحت عنوان الشروط.

ولكننا مع ذلك نلاحظ بروز بعض التلفيقات التي تحاول القفز على الأسس العلمية للاستنباط بطرق لا تعبر عن التزام علمي صارم، فقد قرأت بحثا للكاتب السوري محمد شحرور بعنوان (نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي، فقه المرأة - الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع) وقد تحدث فيه عن موضوعات عدة ترتبط بأحكام الوصية والإرث والقوامة وتعدد الزوجات وأحكام اللباس، ولا أنكر أنه قد أبلى حسنا في الكثير من مواطن بحثه الا انه أخفق في الكثير منها أيضا، ومما أخفق فيه معالجته للآية 31 من سورة النور، فخلاصة كلامه هناك هو إنه توجد ثلاث آيات مرتبطة بأحكام لباس المرأة، فالأولى هي آية الحجاب «وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب» (الأحزاب: 53) ولكنها خاصة بنساء النبي ولا دليل على شمولها لغيرهن من النساء، ثم آية الجلباب «يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين» (الأحزاب: 59) ولكن سياقها وسبب نزولها يشهدان بأنها ناظرة الى معالجة شروط موضوعية كانت في عهد النبي، والغاية منها تجنب المظهر الذي يوجب الأذى وهو يختلف بحسب العادات والأعراف ومن هنا فهي آية تعليمية لا تشريعية، والآية الثالثة هي آية الخمار والزينة «وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن» (النور: 31) وقد علق عليها الكاتب المشار إليه بأن الآية قد دلت على كون الزينة قسمين، فقسم غير ظاهر بالخلق وهي المعبر عنها بالجيوب فهذه يجب تغطيتها «وليضربن بخمرهن على جيوبهن» والقسم الآخر هي المواضع الظاهرة بالخلق وهي ما أظهره الله في خلق المرأة كالرأس والبطن والرجلين واليدين فهذه لا يجب تغطيتها بدليل الاستثناء «إلا ما ظهر منها» إلا أن يستوجب كشفها محذورا آخر كالذي ذكر في آية الجلباب، وأما ما روي عن النبي (ص) أنه قال: «كل المرأة عورة ما عدا وجهها وكفيها» فهو ناظر الى الحد الأعلى فحسب، بمعنى انه ناظر الى النهي عن المزايدة عليه بستر الوجه والكفين ولكن يجوز الإنقاص عنه حسب اختلاف اقتضاء العرف أو المصالح العقلانية.

ولكن في كلامه كثير من مواطن الخلل لأن الظاهر من قوله تعالى «ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها» هو الإطلاق في النهي عن إبداء الزينة ما عدا الزينة الظاهرة، فمن أين صح له أن يصرف مدلول الآية الى خصوص الجيوب حتى يفرع عليه جواز إبداء الجيوب الظاهرة بالخلق؟ وأما «وليضربن بخمرهن على جيوبهن» فقد يكون من قبيل ذكر الخاص بعد العام، فهذا أسلوب مألوف في التشريعات حتى الحديثة منها، فقد ينص المشرع على خاص بعد عام ليلفت النظر الى مدى اعتنائه بذلك الخاص فلا يصلح تقييدا لإطلاق النهي في الآية.

مع إنه لا يظهر من الآية أنها بصدد التأكيد على العرف العام السائد قبل نزولها وهو العرف الجاهلي، بل الظاهر من تصديرها بعنوان «وقل للمؤمنات» هو كونها في سياق التأسيس لوضع جديد في قضية اللباس استنادا الى خصوصية الإيمان، ومن هنا يجب الرجوع في تفسير «إلا ما ظهر» الى قرائن أخرى سوى العرف السائد قبل الآية، نظير حديث شارح لمدلولها أو عرف لاحق لها ومتحقق بعدها استنادا الى مضمونها، وهو ما يعبر عنه في كلمات الفقهاء (السيرة المتشرعية) أي السيرة المستقرة بين الأتباع والممتدة الى زمن المعصوم بحيث تعبر عن التزام مستند الى الشريعة.

كما إنه لا يمكن قبول الادعاء بأن الحديث النبوي المتقدم ناظر الى بيان الحد الأعلى فحسب، بمعنى الحد الذي لا ينبغي الزيادة عليه ولكن يجوز الإنقاص منه بحسب الحالات والمقتضيات، فالحديث ظاهر لغويا في كونه بصدد تحديد ما يلزم على المرأة ستره وما لا يلزم، لأنه جاء بأسلوب التحديد والحصر لغة فهو يشتمل على عموم مثبت «كل المرأة عورة» واستثناء ناف «ماعدا الوجه والكفين» ولذلك فإن ضم كل من السيرة والحديث الى الآية في سورة النور، ثم ضم كل ذلك الى نظير التعليل في قوله تعالى «ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن» (النور: 13) هو اعتبار شرطين أساسيين في الحجاب الشرعي أحدهما مطلق والآخر مقيد، فالمطلق هو ستر ما عدا الوجه والكفين وهو شرط مطلق في كل الأحوال، والمقيد هو أن لا تكون زينة الثياب أو البدن من شأنها أن تكون سببا لفتنة للرجال، فهذا شرط يختلف بحسب الأعراف والعادات. وإنما استطردت في هذه النقطة لأوضح نموذجا لبعض الأبحاث الرائجة أخيرا والتي يراد لها أن تنتسب الى التنظير الفقهي إلا إنها لا تلتزم بضوابط الصناعة الفقهية في اللغة أو العرف أو العقل، حتى صرنا نسمع فتاوى تكشف عن جهل ذريع بأوليات اللغة فضلا عن القواعد الدقيقة للاستنباط نظير العثرة في تفسير الضرب في قوله تعالى (فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن» (النساء: 34) بالابتعاد عن الزوجات، وهو خلط في أصول اشتقاق الكلمة.

فليس مقبولا أن يلفق الباحث مقدمات غير منتجة ليتوصل الى نتائج محددة لديه سلفا أو يرغب في التوصل اليها حتى لو كان ذلك بدافع موضوعي، نعم قد تدفع إشكاليات الواقع الى البحث عن فهم أفضل لحدود النص ومدى دلالته ليكون أكثر عملانية ومرونة مع مستجدات الزمان والمكان، ولكن لا مناص عن الالتزام بما تقتضيه الشروط العلمية للبحث الفقهي، وما عدا ذلك لا يعدو أن يكون مجرد أمنيات في نفوس أصحابها.

إقرأ أيضا لـ "الشيخ حميد المبارك "

العدد 1715 - الخميس 17 مايو 2007م الموافق 29 ربيع الثاني 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً