عندما تسافر إلى الخارج، عادة ما يسألك الأجنبي عن بلدك، وفي مثل هذا الموقف عادة ما أقدّم صورة رومانسية جميلة عن الوطن الحبيب: «أرخبيل مكون من 33 جزيرة صغيرة، تنام وسط مياه الخليج».
إلى هنا والأجانب يحسدوننا، ولكنهم لو عرفوا أننا نعيش مبعدين عن السواحل، لا نجد متنفسا غير 3 في المئة منها، فإن الحسد سينقلب إلى رثاء! وسينقلب الرثاء إلى بكاء لو عرفوا أننا نعيش على 40 في المئة فقط من الأرض، بينما البقية أصبحت أملاكا خاصة. وهم لن يصدّقوا أننا نعيش متكدّسين مثل علب «التونة»، في مناطق مزدحمة عالية الكثافة السكانية على مستوى العالم أجمع. وهي مشكلةٌ أصبح يعانيها أبناء جزيرة المحرق كما يعانيها أبناء جزيرة سترة، ويعانيها أبناء الحد وكرّانة كما يعانيها أبناء القضيبية والدراز. وهؤلاء وجدوا أنفسهم مخيّرين بين القبول بالشقق العمودية كما في المحرق، وبين القبول بتدمير البيئة وإزالة الحزام الأخضر كما في البلاد القديم!
كل هذه أمورٌ داخليةٌ نحتفظ بها لأنفسنا كأبناء بلد، ولا نريد أن يسمع عنها الغريب، أملا أن يأتي يومٌ تجد لها حلولا جذرية باستصلاح سياسة الأرض وتصحيح أخطائها، تدعيما لدولة المؤسسات بدل الاستمرار فيما تفرضه علاقات ما قبل الدولة الحديثة، فالمسار الحالي يأخذنا إلى مزيد من التعقيد في قضية الأرض بما يفاقم من الأزمة الإسكانية الخانقة. وهو مسارٌ ينبئ بتفجر الوضع في المستقبل بسبب ضغط المشكلة السكانية.
خبر محاولة «بيع الفشت»، أثار المخاوف في نفوس الكثيرين، وتلقت «الوسط» منذ اليوم الأول مكالمات كثيرة من المواطنين من المنامة والمحرّق ورأس الرمان وسترة وقرى الساحل الشمالي. وقال أحدهم: «إنه أمر محزن أن تكون هناك عقلية تفكر ببيع الوطن بالتجزئة»، بينما قال آخر: «أخشى أن تستيقظ ذات صباح على خبر بيع قريتك أو منطقتك لشركة أجنبية وأنت لا تدري». كل هذه المخاوف مبرّرة وتحتاج إلى تطمينات قائمة على الصدق والشفافية والرجوع إلى الشعب في مثل هذه القرارات المصيرية التي تمس حياة الناس ومستقبلهم في وطنهم.
اليوم، تنشر «الوسط» تحقيقا ميدانيا مباشرا من «فشت الجارم»، لتنقل إلى الرأي العام حقيقة هذه البقعة من أرض الوطن، والتي يجهل واقعها غالبية المواطنين، لما تمثّله من موئل طبيعي وخزّان للثروة السمكية، فضلا عن كونه خيارا استراتيجيا ومتنفسا حيويا للمستقبل البعيد لهذا الشعب.
الفشت عبارة عن أراضٍ ضحلة، تبلغ مساحتها 260 كم مربع، أي أكثر من ثلث مساحة البحرين. واسم «الفشت» يوحي بالكثير من الغموض بالنسبة للكثيرين، مع اننا جزيرة محاطة بالبحر من كل الجهات، ولكننا أصبحنا بعيدين عنه، بعد الاستئثار بالسواحل حتى لم يعد لنا منفذٌ للبحر. وإذا كان تأثير هذه السياسة على المواطن العادي يتوقف عند حد الحرمان من الهواء الطلق، فإن لها آثارا بليغة على آلاف الصيادين والبحارة الذين ارتبطت حياتهم بالبحر كمصدر رئيسي للدخل. فنحن نتكلم عن ما لا يقل عن خمسة آلاف مواطن، وإذا أخذنا خمسة أشخاص متوسط أفراد الأسرة كحد أدنى، فإننا أمام 25 ألف مواطن متضرّر من استمرار السياسات التي أدت إلى تدمير متسارع للبيئة وردم ودفان، بات يؤثر على الثروة السمكية ويقضي على الشعاب المرجانية كموائل طبيعية لا يمكن تعويضها، فالمرجان كائنٌ حيٌ ينمو بمعدل جزء من السنتيمتر في السنة كما يقول المختصون.
كانت الرحلة إلى «فشت الجارم» ممتعة للغاية حتى تخيّلت نفسي أهبط على سطح القمر، وأتمنى من كل قلبي أن تتاح زيارتها لكل مواطن بحريني ليرى جمال بلده، وأن هناك إمكانات كبرى للنهوض لو تم إصلاح الأوضاع والسياسات التي تؤخر حركتنا لبلوغ دولة القانون والمؤسسات.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1714 - الأربعاء 16 مايو 2007م الموافق 28 ربيع الثاني 1428هـ