بعد أربع سنوات من الغزو والتحطيم والنهب كشفت صحيفة أميركية عن سرقة نفطية في العراق قدرتها بمليارات الدولارات.
تقول الصحيفة التي سرّبت الخبر أن المسئولين لا يعرفون مصير نحو 100 إلى 300 ألف برميل تتبخر يوميا من سجلات شركات النفط. ويبلغ ثمن البراميل المهربة نحو 5 إلى 15 مليون دولار يوميا. وفي المجموع العام تجاوز المبلغ المفقود سنويا 4 مليارات أو 16 مليارا بدءا من فترة الاحتلال.
الكشف عن السرقة طرح أسئلة كثيرة منها يتعلق بالتوقيت (لماذ كشفت الصحيفة الأميركية الآن عن السرقة)، ومنها يتعلّق بالدوافع (هل هناك خطة لإعادة النظر بأسلوب التعامل مع ثروة العراق المنهوبة)، ومنها يتعلّق بالإجراءات (كيف ستتعامل إدارة الاحتلال مع مسألة إنتاج الثروة وبيعها وتوزيعها)؟
هل هناك فعلا مشروع إعادة قراءة للخريطة السياسية أملت على الاجهزة تسريب هذا الخبر لكشف شبكة تهريب عراقية استغلت الفوضى لتأسيس قنوات خاصة لتجميع الثروة وإيداعها في حسابات مصرفية خارج بلاد الرافدين.
الكشف عن السرقة المذكورة يطرح أسئلة. ولكن عملية الكشف المتأخرة لا تظهر بالضرورة عن وجود حسن نيّة وبدء نشوء حالات من الاستقرار أو الشفافية. فالسرقة التي أعلن عنها تعتبر نقطة في بحر. وما ذكر عن تهريب كميّة من النفط يشكل في النهاية ذاك الجزء الصغير من مشروع تقويض وتحطيم ونهب تعرّض له العراق خلال سنوات الاحتلال والدمار. وهذا الكشف عن سرقة صغيرة لأسباب غير معلومة هل جاء لتغطية تلك المنهوبات التي أفقرت دولة ثرية بالموارد الطبيعية كالعراق أو هو محاولة للتملّص من مسئولية الإدارة الأميركية التي ترعى الاحتلال وتتحمّل كل تداعياته الكبيرة والصغيرة كما تنص المعاهدات والمواثيق الدولية؟
تهرب الاحتلال من المسئولية ومحاولة تحميل غيره من فئات وضيعة متعاملة معه أو مستفيدة منه يشكل الدافع الأساسي وراء كشف هذا الجزء الصغير من سرقات كبرى تقدّر بمئات المليارات من الدولارات. وإدعاء الاحتلال أنه لا يعرف وانه غير مسئول وأنه لا يتحمّل كل الأفعال التي وقعت خلال فترة إدارته للغزو وإشرافه على تنظيم الاحتلال وتقويض الدولة وزرع الفوضى وتشجيع المجموعات الأهلية على الاقتتال، كلها إشارات تدل على سياسة كيدية تريد التنصّل من تداعيات كارثة جرّت العراق إليها وربما تجرجر المنطقة إلى الوقوع في أفخاخها.
ما حصل في العراق يفوق الوصف. وتوصيف الواقع الراهن هناك يحتاج إلى قراءات كثيرة تبدأ من سؤال: لماذا قررت واشنطن احتلال العراق؟ وتنتهي بسؤال آخر: لماذا تعمّدت واشنطن على اتباع سياسة التقويض التي حطمت الدولة وزعزعة الاستقرار ودفعت الجماعات الأهلية إلى بناء منظومات تدير شئونها المحلية في مناطقها؟
نهب الثروة تشكل جانبا من الكارثة. الجوانب الأخرى لا تقل خطورة عن السرقات الدائمة. فالفوضى الأمنية مثلا تشكل غطاء للنهب وحتى تستمر السرقة من دون رقابة لابدّ أن تنتشر الفوضى لشد الانتباه إلى مكان آخر. وزعزعة الاستقرار وتعريض أمن الناس للخطر اليومي مسألة قد تكون مدروسة ؛لأن الفوضى تعطل على السّكان التفكير بالاحتلال أو مستقبل الدولة وتفرض على أهل البلاد البحث عن ملاذ آمن تستر فيه أعراضها وأرزاقها.
ترابط الأجزاء
الحلقات إذا مترابطة ومتواصلة. فكلّ جزء يتبع الآخر ويغطي عليه. فالنهب والسرقة والاستيلاء على ثروة البلاد كلّها سلبيات لا يمكن أن تحصل في بلد مستقر وواضح في منظوماته وإداراته وقنواته لذلك كان القرار بدفع العراق إلى هاوية التمزق السياسي والتبعثر الأهلي حتى تتفرغ الشركات واللصوص إلى ممارسة أفعال السطو والسمسرة والتهريب.
هذه الفوضى أطلقت الإدارة الأميركية عليها تسمية «الخلاّقة» وأحيانا «البناءة» وهي في النهاية تعني تشجيع الأهل على الاقتتال الداخلي وإفساح المجال للشركات واللصوص لكسب الوقت والتفرّغ للنهب.
ما كشفت عنه الصحيفة الأميركية عن سرقة كميات من النفط يوميا وعلى مدار أربع سنوات يعتبر مجرد رؤوس أقلام عن سياسة مقصودة تعمّدتها واشنطن منذ أن اتخذت قرار الغزو والاحتلال والتقويض. الآن وبعد انفضاح أمر هذه الاستراتيجية الشريرة تحاول إدارة جورج بوش التنصّل من المسئولية وتحميل الصغار نتائج ذاك العدوان غير المبرر وغير المفهوم. وادعاء الإدارة الفشل في تحقيق الأهداف لا يعطي فكرة واضحة عن الدوافع التي أملت عليها اتخاذ القرار ولا عن الغايات الحقيقية التي توختها فعلا من الغزو. فهل فعلا كانت واشنطن تفكر بتأهيل العراق وتطويره وجعله دولة نموذجية تحتذى في منطقة «الشرق الأوسط» أو أنها خططت عن سابق تصوّر وتصميم على إخضاعه وتحطيمه بغية إخراجه من معادلة الصراع العربي - الإسرائيلي؟ كلّ المعلومات تشير إلى أن تيار «المحافظين الجدد» لا يحمل في أجندته السياسية تلك المثل الشريفة ولا تلك الأخلاق الحميدة. ومَنْ يراجع أفكار ذاك التيار وكتابات قادته لا يجد فقرة واحدة تدل على وجود مثل هذه التوجهات النزيهة والنبيلة.
أيديولوجية تيار «المحافظين الجدد» شريرة وهي تتعامل باحتقار مع شعوب العالم وتتحامل في توجهاتها العامّة على العرب والمسلمين بطريقة لا تدل على الاحترام والتسامح. ومثل هكذا أيديولوجية كيف يمكن أن نتوقع منها الخير؟ وهل من الممكن أن يصدر عنها غير الشر والكره والحقد؟
هذا التيار حكم الولايات المتحدة وسيطر على قرار إدارتها منذ العام 2001 وقاد واشنطن نحو سلسلة حروب ومواجهات باردة انتجت في النهاية هذه الصورة البشعة التي نشهد يوميا بعض لقطاتها في العراق وأفغانستان أو في التعامل السلبي مع القضايا العربية سواء في لبنان أو السودان أو في غزة وذاك الجدار العنصري الذي يطوق الشعب الفلسطيني ويحاصره في أرضه.
إذا كانت هذه هي هوية التيار وأيديولوجيته فكيف يمكن أن نتوقع من «المحافظين الجدد» المساهمة في بناء دولة دستورية وعادلة وقوية وقادرة في العراق؟
لابدّ إذا من تعديل الصورة وإعادة قراءة السياسة الأميركية في بلاد الرافدين. وهذا الأمر يتطلب طرح السؤال الخفي والمسكوت عنه: هل فعلا فشل تيار المحافظين الجدد في مهمته في العراق أو أن المشروع من أساسه خطط له ليصل إلى الغايات الشريرة التي أراد تحقيقها من وراء قرار الغزو والاحتلال؟
الجواب بحاجة إلى وقت لترسيم حدوده وتوضيح معالمه. فهناك الكثير من الأسرار لن يكشف عنها إلاّ بعد حين. وهناك أيضا مسألة هرب قادة هذا التيار من مواقع المسئولية بعد أن نفذت المهمة بنجاح. وهناك أيضا مسألة تهرب ما تبقى من قادة التيار من تحمّل المسئولية ومحاولة لصقها بصغار اللصوص والمرتزقة. والكشف عن سرقة النفط يرجّح أن يكون بداية للتنصّل من فضيحة كبرى ستظهر قريبا على الشاشة الدولية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1714 - الأربعاء 16 مايو 2007م الموافق 28 ربيع الثاني 1428هـ