العدد 1714 - الأربعاء 16 مايو 2007م الموافق 28 ربيع الثاني 1428هـ

هم كانوا... فأين نحن الآن؟

خالد المطوع comments [at] alwasatnews.com

تبقى ذكرى الأيام البحرينية الجميلة عابقة بشذى اللوز المتلاشي، ومفعمة بدفء الروح الوطنية، وقد صنعها الإنسان البحريني بقيمه وأعرافه الاجتماعية المتألقة بسماحتها وألفتها استجابة لبساطة فطرية، وذلك قبل أن تعجنها وترصها في القوالب أية مبادرات وخطوات عملية سياسية ودستورية، ومن دون وجود صبغة أيديولوجية مدنية حينها!

فالرجل البحريني الأول والمرأة البحرينية الأولى هم الذين حملوا جميعا على أكتافهم بتآلف جم ثقل المجتمع البحريني الحافل بالتعددية والتنوع الإثني والمذهبي والديني، وساروا به إلى آخر مطاف محتمل بطيب النوايا على رغم سوء الحال وكدح الحياة وشظف العيش المعهود منذ أول بحريني وحتى اليوم!

ولاشك في أنه كان لفوح التعددية ومخاليط التنوع المنفتح، والتي ختمت المجتمع البحريني المتحضر والرائد في نهضته تاريخيا ومواكبته لمسار عملية «بناء الدولة» وتشييد أركانها، أعظم الأثر في تأصيل تلك القيم والتقاليد والأعراف الاجتماعية البحرينية النضاحة بروح الضيافة والاحتواء والطيبة، وأدى إلى تجذيرهم جميعا حد أن تكون مترادفا للفطرة الاجتماعية البحرينية المتميزة عن غيرها من مجتمعات أخرى في دول المنطقة، وربما لم تشهد روح التنوع والتعددية المتحضرة كالتي شهدها تاريخيا المجتمع البحريني.

ويبدو مناسبا في وقتنا الحالي الحديث عن أيام زمان «لول» في البحرين لأجل إعادة ابتعاث وإحياء عدد من الصور المشرقة التي ميزت المجتمع البحريني المنفتح والمتحضر في سنينه السابقة أكثر من وقتنا الحالي!

وأعني بالمجتمع البحريني بمجتمع الصيد، ومجتمع التجارة، ومجتمع الفلاحة والحراثة، ومجتمع الحياة المدينية المعاصرة، والذي كان ينعم فيه الإنسان البحريني بوطنيته ومواطنيته التضامنية، قبل أن يعلن ذلك سياسيا قناعيا ودستوريا، وبأي مسمى آخر مستحدث في المنطقة!

فهو ظل بامتياز صانعا محترفا ومثابرا لتلك الآليات التضامنية الاجتماعية الراقية المنطلقة من فطرة إنسانية أصيلة من دون أن يقرأ حرفا أو ينال بريقا!

ولعله من المناسب أن أسرد بعضا مما ذكره لي الأقربون الأعزاء من حكايات تاريخية بحرينية لا تكاد أن تنسى، فلربما هي كفيلة ولو نسبيا بتجلية تلك الصور الاجتماعية المشرقة التي تعكس بواكير توهج الروح الوطنية البحرينية بأبعادها التضامنية المتعددة، عسى أن تقتدي بعض الأجيال الحاضرة برونقها وبهائها، وهي الأجيال التي أجبرت حاليا على أن تستنشق من سموم الطائفية الصفراء، وأن تعرف أحقادا وكراهية شيطانية فاجرة لم يعرف لها مصدر، ولم يرصد لها جذر أو منبع يمدها بأسباب البقاء والمنعة، اللهم سوى روافد إقليمية ومحلية متلقية بشكل وبائي ومحيط اصطناعي، يجبر الفرد والجماعات المأسورة بقيمه وقوانينه وأعرافه وظواهره أن تخضع لها كأنما هي طوق نجاة ومحجة صواب.

وقد روى لي الأقربون وتفاخروا واعتزوا بذلك ببحرينية أصيلة أنه وخلال ثلاثينات القرن الماضي كان المرحوم جدي الأكبر إبراهيم يعمل مع غيره من زملائه العاملين البحرينيين بكدح ومشقة في شركة نفط البحرين (بابكو)، وتحديدا في عهد الوصاية البريطانية، وتحت إمرة مسئولين إنجليز لا يراعون ولا يقيمون أي وزن لمشاعر وانتماءات العاملين البحرينيين لديهم، وبالتالي هم لا يمنحون أدنى اعتبار للمناسبات والشعائر الدينية العزائية التي تحل مواسمها علي البحرين في كل عام، إذ كان المسئولون الإنجليز يمنعون بصرامة العمال من الطائفة الشيعية الكريمة بالاستئذان والخروج من العمل للمشاركة في الطقوس الدينية والمواكب العزائية التي كانت تجري في البحرين تحديدا، وذلك خلال مواسم إحياء ذكرى هذه المناسبات الدينية التاريخية.

وقد كان أحد زملاء جدي في العمل حينها رجل من قرية «داركليب» المجاورة لقرية «الزلاق» يدعى هو الآخر إبراهيم، وقد تمنى هذا العامل المسكين أن تتاح له الفرصة للمشاركة في الشعائر الدينية العزائية المنعقدة في موسمها على رغم كون ذلك الأمر يعد حينها مجازفة معروفة العواقب، وأمنية ذات إجابة مسبقة من أرباب العمل والمسئولين الإنجليز الذين لا يقدرون مثل هذا الأمر، إلا أن رحمة الله تعالى شاءت أن تحقق لعبده العامل المسكين أمنيته ورجاءه من خلال مبادرة زميله الزلاقي إبراهيم، وذلك في إيجاد مخرج لزميله سيتيح له تحقيق أمنيته تلك بالمشاركة في الشعائر الدينية العزائية في الموسم بأكمله، وقد تم ذلك من خلال أن يعمل جدي لنوبتي عمل متتاليتين (Shift)، فيقضي نوبته ونوبة زميله معا خلال موسم الشعائر الدينية العزائية.

فكان جدي بعد أن ينهي نوبة عمله يؤدي نوبة عمل زميله الذي يذهب حينها للمشاركة في الشعائر الدينية العزائية في جميع أيام الموسم كاملة، وقد نجح ذلك المخرج والفرج، وتحققت الأمنية الغالية للعامل المسكين (إبراهيم) في تأدية الشعائر الدينية الموسمية والمشاركة في مواكب العزاء عبر تضامن وتضحية إنسانية أتت من زميله الزلاقي من دون مقابل، ورغما عن أنف العجرفة الإنجليزية المهيمنة حينها، والتي عجزت على أن تكسر الإرادة التضامنية الاجتماعية الصلبة للبحرينيين!

وبعد فترة من الزمن من تلك الحادثة توفي جدي الأكبر «إبراهيم» وقد كان حينها في عز شبابه، فأقسم حينها زميله في قرية داركليب «إبراهيم» بمنتهى الوفاء لذكراه ألا يدخل قرية الزلاق المجاورة لـ «داركليب» بعد وفاة زميله أبدا، وقد أنجز هذا الصديق الوفي قسمه وفاء لصديقه الذي ضحى لأجله سابقا، ولأجل روح المجتمع والوطن البحريني الواحد المتضامن، فلم يدخل «الزلاق» حتى توفاه الله تعالى!

كما أنني أذكر أيضا حكاية أخرى من الزمن الماضي رواها لي الأقربون عن رجل أتى من «بوري» إلى «الزلاق» البعيدة زائرا، وتحديدا إلى بيت العائلة بغرض شراء السمك، وما أن حل الليل بظلمته الدامسة، وأصبحت الزلاق أنوارا معدودة ومعزولة بين فكي الساحل البحري الفسيح والبراري الموحشة على امتداد الأفق المنظور بعيدا عن سائر القرى المجاورة، وقد أراد حينها الرجل الزائر العودة على ظهر حماره إلى بيته في قرية «بوري»، إلا أن إصرار المرحومة ربة العائلة حال دون عودة الزائر إلى بيته في «بوري» ليلا، فقد استوقفه أفراد العائلة قلقا عليه وسط هذه الطرقات البرية المظلمة والموحشة، وطلبوا من الضيف الزائر حينها أن يقضي ليلته في غرفة «المجلس» ببيت العائلة المتواضع بالزلاق حتى حلول صباح اليوم التالي.

تلك كانت نماذج مروية من الحكايات البحرينية التي قد تدهش وتذهل بعضا من جيلنا المبتلى حاليا بأمراض المدنية الحديثة، وأسقام الجاهلية الغابرة من نعرات طائفية وغيرها، وهذه الحكايات قد يعتبرها البعض رومانسيات تاريخية انتهى زمانها وليس لها عودة! ولكن قد يعد أمرا مجديا حكايتها وتلاوتها وتداولها من جيل إلى جيل، وكل بحسب هواه وبحرينيته، وبحسب وسطه البيئي والاجتماعي المعاش، فلربما تعيد شيئا من ألق قد مضى، وتحل بعض الرشد على العقل المنحدر نحو مهاوي الردى الطائفي والفئوي و»الوطني» بلا أفق ولا قرار، ومن دون إجابة حاسمة عن سؤال «إلى أين المطاف بعد كل هذا الانحدار الطائفي البغيض؟!»، و«ما المحصلة النهائية؟!».

وربما هنالك أسئلة أخرى يعد طرحها أكثر جدوى عن مستقبل الهوية التضامنية الاجتماعية للمجتمع البحريني بقيمه وأعرافه الأصيلة المعززة، وهل سيظل موقع القيم والأعراف الاجتماعية البحرينية الأصيلة في محله ذاته دونما زحزحة، وقد انمسخ حاليا هذا المجتمع بفعل فاعل، وأوشك شعب آخر على أن يستجدى ليستبدل بشعب هذه الأرض!

إلى أين تسير البحرين بتضامنياتها الاجتماعية الأثيرة على القلب المرهق؟!

وأين هم البحرينيون؟!

هم كانوا فأين نحن الآن؟!

إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"

العدد 1714 - الأربعاء 16 مايو 2007م الموافق 28 ربيع الثاني 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً