قبل أيام كان مثار حديثنا عن «الفردية»، وما توصل إليه مفهوم الفردية في الغرب، إذ يمكن لجارك عند وصول ارتفاع صوتك إليه أن يجرك إلى الشرطة. هذه السمة الحضارية التي بنيت خلال سنوات من الفكر البشري، والصراع بين القوى، والكثير من الإخفاقات والاتفاقات، في الحقيقة تتعارض في جوانبَ منها بالمصلحة الاجتماعية، وذلك ليس في مجال التنظير لهذه النظرية، بل انطلاقا من واقع وقضايا، أبرزها ما يثار حاليا في الولايات المتحدة الأميركية، حيث يجري الحديث الآن عن قضايا إعطاء إجازة سلاح لغير المؤهلين عقليا، ويطالب التقرير بتغذية أجهزة الحواسيب في محلات بيع الأسلحة، وأجهزة الأمن بالمعلومات الكافية عن المرضى النفسيين؛ ليتم بذلك تجنب إعطاء أحدهم إجازة حمل سلاح. فخلال الأعوام السابقة قام الكثير من غير المؤهلين عقليا بجرائم قتل وإيذاء، وعليه أتى التقرير لحمل القائمين على علاجهم، بتسريب المعلومات اللازمة إلى الجهات المختصة.
ولكن في المقابل تصطدم مصلحة المجتمع مع «الفردية»، التي تكفل حرياتٍ متعددة ومختلفة، منها حق المريض في حماية أسراره، وهذا فعلا ما دفع بعض الأطباء إلى رفض إعطاء معلومات عن مرضاهم، وفي الوقت نفسه هو سبب يكمن وراءه ما قد تصل إليه النتائج، من خوف دخول المرضى عيادة الطبيب حفظا لأسرارهم.
والحرية الأخرى التي تصطدم معها هذه المصلحة هي حرية أو حق حمل السلاح، وهو التشريع القائل: «لمّا كان وجود ميليشيا جيدة التنظيم ضروريا لأمن دولة حرة، فإنه لا يجوز انتهاك حق الناس في حيازة وحمل السلاح»، وهذا جانب آخر، إذ الفردية، وإن اختلفنا على جدوى حمل السلاح لدى العقلاء، إلا أنه حق يمتلكه صاحبه بموجب كونه بشرا. حتى مفهوم الحرية بذلك يأخذ بعدا شخصيا، أكثر من تحديده بمصالح عليا، فقط شريطة ألا تصطدم هذه الحرية بانتهاك فردية أخرى مجاورة، أو حرية مجاورة، فالحرية هنا ليست وسيلة لغاية ما سياسية عليا قد نعتقدها، إنما هي الغاية العليا من السياسة، أي الحرية بحد ذاتها.
لذلك كان هناك اتجاهان في فهم الحق، فهناك من آمن بالفردية أو حق الفرد، إذ يعتبرون أن الفرد هو الغاية من سَنِّ القوانين، وهو يولد بكامل حقوقه الطبيعية؛ لأنه يولد بشرا، وبذلك فإن حقه كائنا قبل سَنِّ القوانين، ومع تفاعل البشرية وضعت القوانين لتنظيم العلاقات فيما بينهم، وهي كذلك لتأمين هذه الحقوق الفردية.
أما أصحاب رأي حق الجماعة - لأن الجماعة السبب الحقيقي وراء تنظيم المجتمع، ووضع القوانين له، وبذلك لا يجوز للفرد التمسك بحقوق يزعمها ضد مصلحة المجموعة، وبذلك لا يمتلك من حق إلا ما تمنحه إياه الجماعة - فالقانون بهذا المنظور هو أساس الحق.
من هنا يأتي إدراك الدولة، إذ من هذه الخصوصية يبنى مفهوم الدولة، أي من الجزئي إلى الكلي، أو من الكلي إلى الجزئي، ولكن الفردية هي بخلاف الدارج والمتبع، من أن الدولة هي احتكار وسائل العنف. هنا تصبح - إذا ما حاولنا أقلمتها وتطويعها للفردية- انطلاقا من الشخص؛ لأنه خلق مثل البقية، لديه معهم حقوق متساوية، وهذه الحقوق غير قابلة للبتر، أو تصرف الآخرين بالوصاية عليها، منها حق الحياة والسعادة والحرية، وليتم تأمين ذلك للفرد أنشئت ما يطلق عليها «الحكومة»، ولكنها بالضرورة تستمد شرعيتها من إقرار المحكومين بها.
العدد 1714 - الأربعاء 16 مايو 2007م الموافق 28 ربيع الثاني 1428هـ