بأناقة بسيطة طغى عليها اللون الأسود، تقدم عبدالمعطي حجازي إلى المنصة، لتسبقه نبيلة زباري. قدمته باحتفاء جميل أغدق الكثير من المديح لتاريخه، ليصل إلى المنصة شاكرا القائمين على مركز الشيخ إبراهيم، ثم أعلن تشرفه بإلقاء نصوصه في بيتٍ يذكره بـ «العريض»، إذ التقاه في القاهرة وسورية ضمن البرامج والدعوات الثقافية في الخمسينات، مبيّنا في الوقت نفسه أن ما سيقرأه سيرته، هذه السيرة الشعرية، التي هي سيرة إنسانية أيضا بحسب تعبير حجازي.
أول نصوصه كان بعنوان «موعد في كهف»، ابتدأ إلقاءه بهدوء، ليتصاعد قليلا بتفاعل النص صعودا، ليتحول إلقاؤه إلى عصبي متوتر، تساوقه حركة يد تعبيرية، فيهبط عن انتهاء المقاطع الشعرية إلى همس هادئ، لازمه هذا الإلقاء في جميع نصوصه، في حين كانت أكثر قصائده مطولات ملحمية، يظهر منها التزامه القافية ونظام الشعر الحر السبعيني، الذي وضع التقفية من لوازم الشكل الشعري، ومن جانب آخر حافظ على الإيقاع التفعيلي في نصوصه.
حجازي - الذي يصر على الوزن سمة أساسية - قدم نصوصا مرتبكة تفعيليا، وهو وقفوه على ضروب من الدائرة التفعيلية، ثم خروجه على الجسد التفعيلي ككسر لتصاعد ودائرية النص، وهو ما جعل من تقديمه لنصوصه وإن فرض عليها إلقاء جيدا، إلا أن ذلك لم يخفِ الارتباك الوزني، غير المتزن إيقاعيا في هذه النصوص، علما أن النصوص التي قدمها حجازي لم تكن إلا تراثه الشعري، وهي النصوص التي اعتاد إلقاءها في أكثر أمسياته الحديثة، ومع ذلك قدم قراءة غير صحيحة المخارج، كأنه كان يقرأ الجيم الفصيحة بلكنة ولحن، وهي أمور غير مستساغة في إمالة الأحرف.
تميزت مقاطع النصوص لدى حجازي بالتقطيع البسيط من حيث الصورة، فمازال نصه رهين اللحظة السبعينية حتى الستينية، كقوله في أحد النصوص:
«كان قمرْ
ليلتها في الماء يقطف الزهرْ»
وأكسب هذا التقطيع دلالة أعمق ما قام به من تقطيعه في الإلقاء بصورة فاقعة؛ ما منح النص إنشادية، كأنها تلتزم قواعد التحفيظ المدرسية، في حين لم يحمل نصه قدرة على الإدهاش، فيمكن للمتلقي أن يقترح القافية القادمة التي قد يسوقها حجازي. ربما يمكن إرجاع ذلك إلى كون النصوص المقدمة قديمة ومحفوظة، ولا يمكن تذوقها إلا بلحظتها التاريخية، وفي ذلك وجه. ألقى بعد نصه الأول نصوصا منها «مرثية للاعب سيرك»، و «تعليق على منظر طبيعي»، قال فيه: «في الماضي كان الله يظهر لي حين تغيب الشمس كبستاني» و «مرثية للعمر الجميل» في ذكرى زعيم عربي، وأخيرا «طردية».
قد تميز نصه المعروف «مرثية للعمر الجميل»، وهو نص يتحدث فيه الشاعر عن زمن جمال عبدالناصر، وموقف الشاعر من الحوادث، بسقف شاعريته واتساقه، قال فيه:
«إني تبعتك من أول الحلم
من أول اليأس
حتى النهاية/..
رحلت وراءك من مستحيلٍ إلى مستحيلٍ...
كأني أمشي وراء دمي
آه هل يخدع الدم صاحبه
من تُرى يحمل الآن عبأ الهزيمة؟
ليُطرق قليلا ثم يبكي، كان يتنفس ببطء. أخفى ملامحه كأنه يثير المتلقي أكثر بهذه المشهدية، ليصرخ بعد ذلك بشكل عصبي: «لا لم أكن شاهدا أبدا... إنني قاتل أو قتيل... انضممت إلى طائفة الفقراء، واتخذت إماما، لم يكن غير وهم جميل بكيتُ». في قصيدته «مرثية» قدم حجازي نصا متوازنا، بل هو أفضل نصوصه عموما. كان نصا عبر الحاجز الزمني، حتى تجاوز آلة حجازي الشعرية، التي قد تنتمي إلى زمن قد يكون جميلا بمعاييره وبجمالياته. كان نصا طويلا ملحميا، استقبله الجمهور منذ العنوان بالتصفيق، دلالة على حسن اختياره. نعم كان رهانا على استمرارية حجازي، ولكنه خذل جمهوره بتقديمه تراثه الشعري، وكان رهانا على قدرته في الرد على القائلين بموته شعريا، ولكنه لم يكن مقنعا بما فيه الكفاية، فهل سيرتكب حجازي مغامرة شعرية جديدة، أم سيركن للأوسمة التاريخية التي حصدها؟ سؤال سيبقى ينتظر إجابته.
العدد 1714 - الأربعاء 16 مايو 2007م الموافق 28 ربيع الثاني 1428هـ