لقد ابتهج العالم ابتهاجا كبيرا أخيرا وهو يتابع زعيمين سياسيين أمضيا حياتهما السياسية في معاداة مريرة لبعضهما بعضا وهما يجلسان إلى جنبا إلى جنب لمخاطبة وسائل الإعلام بعد توصلهما إلى اتفاق تاريخي عن تسوية سياسية في ايرلندة الشمالية. وقد كان ذلك الاتفاق والتطورات التي تبعته مفاجئين للكثير من المعلقين، خصوصا بالنظر إلى الاختلافات السياسية الشديدة التباين التي كانت فيما مضى أعمق من أن تمتد بينها الجسور، وهو ما نجم عنه فشل محاولات جرت سابقا لتشكيل حكومة قابلة للاستمرار تتشارك أطراف السلطة فيها.
وأعني هنا طبعا أول لقاء مباشر على الإطلاق يجري وجها لوجه بين زعيم «شين فين» جيري آدمز، وزعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي وإيان بيزلي للاتفاق على أن يشترك حزباهما مع بعضهما بعضا في حكومة ايرلندة الشمالية التي خرجت للوجود في 8 مايو/ أيار.
وخلال العقد الماضي اكتسب إيان بيزلي، بسبب موقفه الاتحادي المتشدد، سمعته التي جعلته يعرف باسم «د. كلا» لأنه كان يقول «كلا» بكل تصميم فيما يتعلق بمشاركة السلطة مع «شين فين».
وكان حزب شين فين الذي يتزعمه جيري آدمز هو الجناح السياسي للجيش الجمهوري الايرلندي غير الرسمي، وهو جماعة مسئولة عن حملة العنف التي أحدثت الدمار في جميع أرجاء ايرلندة الشمالية والمملكة المتحدة لما يزيد على 30 عاما. وقد اتـُّهم آدمز بأنه أحد أعضاء الجيش الجمهوري الايرلندي البارزين، على رغم قيادته للاستراتيجية السياسية لحزب شين فين الذي يتزعمه، بالمشاركة مع مارتن غيننيس في تلك الاستراتيجية التي يلتزم «شين فين» حاليا بتحقيقها عبر وسائل ديمقراطية حصرا، وهو ما فشل الجيش الجمهوري الايرلندي في تحقيقه عبر الإرهاب.
لقد قطع كلا الزعيمين شوطا طويلا جدا فيما يتعلق بمواقفهما السياسية من دون شك، وأبديا التزاما شخصيا تجاه إيجاد حل يحقق ما يريده أتبعاهما - ألا وهو إنشاء ايرلندة شمالية تنعم بالسلام والرخاء تحت قيادة حكومة تمثل مصالح جميع الأطراف. وهناك درس ليستقيه الكثيرون من بيننا هنا. فحين أتذكر إيان بيزلي يقول في إحدى المناسبات «كلا، كلا ثم كلا «، وكان يعني ذلك بكل وضوح، فإن هذا يذكرني بآخرين وضعوا خطوطا حمراء مماثلة بشأن أي نوع من التنازلات مع عدو لدود يبغضونه أشد البغض.
إن جذور الصراع في ايرلندة الشمالية ضاربة إلى أعماق التاريخ. ومن دون الالتزام بإيجاد حل دائم، لربما استمر ذلك الصراع إلى ما لا نهاية، مسببا معاناة وبأسا مستمرين للأبرياء من المدنيين الذين يجدون أنفسهم متورطين وسط أعمال العنف من دون ذنب منهم. وبالمثل فإن الصراع العربي الإسرائيلي جاثم منذ عقود كثيرة. ومعظمنا يرى أن الخطوط العريضة لاتفاق سلام يؤدي إلى قيام دولتين هي عناوين واضحة بدرجة معقولة - وتعني الانسحاب من الأراضي المحتلة؛ وقيام دولة فلسطينية ذات سيادة وتتمتع بمقومات الدولة؛ وإيجاد تسويات عادلة لقضايا القدس والمحتجزين واللاجئين. إلا أن قلة قليلة هي التي ترى كيف يمكننا الوصول إلى تسوية الوضع النهائي هذا في المستقبل القريب.
وهذه مأساة ضخمة الأبعاد لأن عامة الناس من البُسَطاء هم من يعانون في ظل وضع كهذا. إن الحرمان المتزايد والوضع الاقتصادي المتدهور باستمرار في الأراضي الفلسطينية هما ملمحان جليان يدلان على غياب التقدم نحو إيجاد تسوية. وليست فقط أطرافا مثل «حماس» وحركات الجهاد وقوات جيش الدفاع الإسرائيلي - بينما يردون عليهم - هم الذين يرتكبون هذا العنف المستمر الآن. وإنما تدعم هذا لعنف الدائر في هذه الأيام الحالكة فصائل مسلحة وعصابات إجرامية ومختطفون وسفاحون من جميع الصنوف والألوان، من قبيل مختطفي مراسل هيئة الإذاعة البريطانية في غزة ألن جونستون.
إن هؤلاء المدنيين هم ضحايا غياب إرادة سياسية لدى الأطراف والجماعات على جميع الجوانب في التوصل إلى تسوية. إن التشدد في المواجهات السياسية ورفض المرونة بهدف التوصل إلى حلول وسطية لا يؤديان إلا إلى تأجيل إحلال السلام وذلك لأنه لا مفر من التوصل إلى اتفاق سلام في آخر المطاف. ولا أحد يعلم إن كان التوصل إلى هذا الاتفاق سيستغرق عامين أو عشرين عاما. فَلِمَ إذا نترك الناس تعاني وتموت من دون داعٍ إبَّان ذاك؟ والسؤال الذي يفرض نفسه حتميا هنا هو متى سيصل الشقاء والمعاناة اللذان يعانيهما الشرق الأوسط إلى المستوى الذي لا تبدوا عنده التنازلات الضرورية لتحقيق السلام ثمنا غاليا لا يمكن دفعه. ولا يؤدي الانتظار لفترة أطول إلى تحقيق مكاسب أكبر لأي من الأطراف؛ بل إن كل ما يعنيه الانتظار هو المزيد من الدمار، والمزيد من العائلات التي تفجع بمقتل أحباء لها.
إن تحقيق السلام يتطلب وجود قادة يتمتعون بالشجاعة وبعد النظر ليتطلعوا نحو المستقبل ويتخذوا قرارات صعبة. ومن هذا المنظور فإن رفضهم إبداء المرونة هو مؤشر على الضعف؛ فهم يُسِرُّون لأنفسهم قائلين: لا أقدر على اتخاذ هذه القرارات، لكن قد يستطيع من يأتي من بعدي فعل ذلك.
شهدت السنوات القليلة الأخيرة نمو شعبية كل من الحزبين الاتحادي الديمقراطي وشين فين، وصاحبت ذلك زيادة الضغوط على كلا الحزبين لإيجاد حل دائم وعملي للخلافات التي عرقلت إحراز تقدم في ايرلندة الشمالية. ومع نمو أعداد الناخبين الذين يتطلعون إليهما لتمثيل مصالحهم، أُجبِر الحزبان بشكل متزايد - وحصلا على تفويض شعبي - بتبني موقف أكثر واقعية. وقد وُضِعَت «حماس» في مأزق مماثل حين وجد قادتها أنفسهم في موقع السلطة بين ليلة وضحاها. وكما كان الحال بالنسبة إلى منظمة التحرير الفلسطينية من قبلهم، بات من الواجب على «حماس» أن توازن بين الأهداف الثورية بإلقاء عدوها في البحر وبين أهداف من شأنها أن تعود بالنفع الملموس على المواطنين الذين هم مساءلين أمامهم.
لا يكفي وجود قادة يتمتعون بالحكمة وبعد النظر على جانب واحد في خضم مثل هذه العملية المعقدة. لكن في النهاية، ومع انضمام الحزب الاتحادي الديمقراطي وحزب شين فين إلى غيرهما من الأحزاب السياسية الأساسية الأخرى في ايرلندة الشمالية بإبدائهما التزاما تجاه العملية السياسية، تم التوصل إلى حل مقبول لجميع الأطراف. ولن ينظر أي من هذه الأطراف لهذا الحل على أنه حل كامل الأوصاف، ولكنهم جميعا على درجة كافية من الشجاعة لكي يُقِرُّوا بأن الكمال في أعمال البشر هو أمر غاية في الندرة.
وقد شهدنا خلال الشهور الأخيرة مثل هذه الإيماءات الشجاعة من أطراف مختلفة بشأن عملية السلام في الشرق الأوسط، لكن أيا من هذه الإيماءات غير كافية لتحقيق أي شيء، ولكنها تساهم بمرور الوقت في تقريب الأطراف من بعضهم بعضا أكثر وأكثر. وحتى في حال الاستئناف الكامل للمفاوضات الثنائية، فلن يكون ذلك إلا بداية لعملية صعبة ومؤلمة للغاية بالنسبة إلى جميع الأطراف.
والدرس الآخر الذي نستقيه من العملية السياسية في ايرلندة الشمالية هو مدى أهمية تقديم دعم للأحزاب الأساسية من قبل كل من الحكومات البريطانية والايرلندية والأميركية، من بين غيرها من الحكومات، لمساعدة هذه الأحزاب على اتخاذ هذه الخطوات المهمة. فمن دون هذا التشجيع للمتشددين على أن يجلسوا إلى مائدة المفاوضات يكون من شبه المحال تحقيق التقدم الذي شهدناه أخيرا. ويجب علينا أن نعي هذا الدرس ونستوعبه: وهو أنه يمكن للأطراف الخارجية أن تلعب أدوارا حيوية في معالجة القضايا التي تُفرِّق بين المجتمعات والفصائل.
وفي سياق الشرق الأوسط، حظيت الجهود السعودية بثناءٍ خاص خلال الأسابيع الماضية، ويبدو أن رعاية السعودية قد لعبت دورا مهما في التوصل إلى اتفاق مكة الذي أدى إلى وضع نهاية لأعمال العنف الداخلي بين الفصائل الفلسطينية، ونجم عنه تشكيل حكومة الوحدة الوطنية. إن اقتراح السلام العربي والاقتراح الذي طرحته اللجنة الرباعية هما وسيلتان يمكنهما الإسهام في بناء السلام في الشرق الأوسط. كما كان الدعم المالي المقدم من الدول العربية والاتحاد الأوروبي بمثابة طوق النجاة للفلسطينيين خلال فترة كانت صعبة للغاية بالنسبة إليهم وحين كانت آمال السلام أكثر تشاؤما من أي وقت مضى. تلتزم بريطانيا والاتحاد الأوروبي خلال الشهور المقبلة ببذل كل ما في وسعهم للدفع بعملية السلام في الشرق الأوسط نحو الأمام. كما أبدت الولايات المتحدة أيضا رغبتها في الجمع بين الطرفين. لكن يجب ألا ننسى أن كل الدعم وجميع الجهود الدبلوماسية في العالم ليس بمقدورها أن تجعل الطرفين يدفنا الخلافات بينهما إذا ما قررا أن الوقت لم يحن بعد لنبذ العنف.
حَوَّل جيري آدمز وإيان بيزلي المُهلة الزمنية المتاحة لايرلندة الشمالية لكي تتوصل «إما التفويض أو الحل» إلى فرصة لوضع الخلافات بين حزبيهما وأتباعهما جانبا. ولا شك في أنهما يعكسان بوضوح رغبات الغالبية العظمى من أتباعهما في العيش حياة آمنة ورغدة في أعقاب عقود من الموت والخوف. إن على المجتمع الدولي مسئولية في إقناع الإسرائيليين والفلسطينيين أنه قد آن الأوان لهما أن ينتهزا الفرصة لإنهاء العنف الذي لا قصد من ورائه والذي أصاب بآفته حياة الكثيرين من الأبرياء.
إقرأ أيضا لـ "كيم هاولز"العدد 1713 - الثلثاء 15 مايو 2007م الموافق 27 ربيع الثاني 1428هـ