لعلها المصادفة فقط هي التي جمعت بين ذكرى تأسيس دولة «الكيان العبري» في فلسطين في 14 مايو/ أيار 1948 وبين بدء انهيار «تفاهم مكة» الذي وقعته «فتح» و «حماس» لوقف الاقتتال السياسي وتشكيل حكومة ثنائية. المصادفة تعني الكثير من الإشارات المؤسفة والسلبية. ففي وقت تحتفل «إسرائيل» بمرور 59 عاما على تأسيس دولتها على أرض فلسطين بدأت الفصائل الفلسطينية اقتتالها الذي تتوج أمس الأول باستقالة وزير الداخلية واندلاع العنف في غزة.
العنف الأخوي أوقع حتى أمس 12 شهيدا من الطرفين على حين حكومة تل أبيب اتخذت مجموعة قرارات خطيرة في مناسبة التأسيس. فالحكومة الإسرائيلية قررت بناء 20 ألف وحدة سكنية في القدس بهدف تعديل التوازن الديموغرافي فيها بعد مرور 40 عاما على احتلالها وإعلان ضمها كعاصمة للدولة. والحكومة أيضا بدأت بتدريبات شاملة في الشمال والوسط والجنوب لإعادة تأهيل الجيش الإسرائيلي بعد تلك «الإخفاقات» التي سجلها خلال عدوانه على لبنان في الصيف الماضي.
حكومة إيهود أولمرت التي تعاني أزمات داخلية بسبب نشر التقرير المرحلي لتحقيقات لجنة «فينوغراد» تحاول قدر الإمكان تجاوز المأزق السياسي بدعم أميركي مباشر اقتصاديا وماليا وعسكريا. فتلك الثغرات والعثرات التي ظهرت في بنية الدولة ومؤسساتها الحربية تلقى العناية من الولايات المتحدة التي عمدت إلى إغداق تل أبيب بالأموال الطائلة وتسليمها نسخة معدلة من نموذج طائرة «إف 16» الحربية يستطيع التحليق فوق الأجواء العربية وصولا إلى إيران.
«إسرائيل» الآن التي تعيش حالات إحباط نفسية بسبب تلك «الإخفاقات» في غزة ولبنان يعاد إنعاشها بالمساعدات وهذا ما أدى إلى انتعاش السوق الإسرائيلية بنسبة عالية خلال الأشهر التي تلت توقف العدوان. وبسبب هذا الضخ المالي والمساعدات الاقتصادية والدعم التقني والعسكري الذي أغدقته إدارة جورج بوش على تل أبيب نجح أولمرت في الثبات في منصبه وتحدى الدعوات المطالبة باستقالته.
مقابل محاولات الترميم التي تلجأ إليها حكومة أولمرت لتجاوز العثرات والإخفاقات نجد لبنان يمر في حالات من التأزم الداخلي يهدد أمنه واستقراره الأهلي. بينما فلسطين أو ما تبقى منها للسلطة تدخل في انقسامات سياسية تحبط ذاك الانجاز الذي توافقت عليه الفصائل المتناحرة في مكة المكرمة.
هذه المصادفة تكشف عن عمق المفارقات بين دولة أخفقت وتشهد النمو الاقتصادي والمالي والتضخم في القدرات العسكرية والتقنيات الحربية وبين طرف يُعَاقَب دوليا على خياراته الديمقراطية وتُوَجَّه ضده الاتهامات ويُحاصر ماليا إلى درجة أدى الحصار إلى نوع من النزف البشري تمثل في معدل هجرة شهرية تتجاوز أحيانا عشرة آلاف فلسطيني.
فلسطين تشهد هذه الأيام اخطر وربما اكبر حركة تهجير منذ حرب يونيو/ حزيران 1967. وفي حال استمر مخطط التهجير هذا الذي بدأ قبل 16 شهرا فإن أراضي 1967 يرجح أن تشهد اتساع نطاق الهجرة يشبه ذاك الذي حصل عنوة في عام النكبة 1948. فالتقديرات المبدئية والإحصاءات غير الرسمية تقول إن نحو 160 ألفا غادروا غزة والضفة في الأشهر الأخيرة بحثا عن مصادر رزق أو عمل في الخارج. وتأتي تلك الأرقام لتؤكد وجود خطة تفريغ أو تخفيف الأراضي المحتلة 1967 من الكثافة السكانية متذرعة بوجود «حماس» في السلطة. وهذه الذريعة التي استخدمتها الدول الأوروبية والولايات المتحدة لشن الحرب الاقتصادية على الشعب الفلسطيني من دون وجه حق اختلقت للتغطية على خطط التهجير من الأراضي ليس من طريق القوة بل لدوافع معيشية ولأسباب إنسانية.
هذه المأساة المريعة المتمثلة في النزف البشري خارج الأراضي الفلسطينية تبدو حتى الآن لا تشكل هذا الهم لدى الفصائل المتصادمة في شوارع غزة. فالفصائل تتقاتل على تحسين مواقع النفوذ في السلطة والناس يتركون أرضهم ومنازلهم ويغادرون بلادهم بحثا عن الرزق في المحيط العربي أو العالم.
مأساة تتفاقم
إنها مأساة. ولكن المشكلة تزداد حين يتحول القلق على القضية إلى تقاتل على السلطة والوزارة والمقاعد في وقت تبحث حكومة أولمرت مجموعة خطط عسكرية لاجتياح غزة وإعادة احتلال الضفة.
ومثل هذه المأساة ليست جديدة. فالتاريخ المعاصر منذ عقد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل 1897 إلى صدور قرار التقسيم في 1947 شهد الكثير من هذه المصادفات والمفارقات وهي في مجموعها تشير إلى أن النكبة كان من الصعب اختراعها لو لم تتوافر تلك العناصر التي شجعت أو سهلت سياسة الاستيلاء والطرد والتهجير. وهذا هو الفارق بين هيئات واعية ومتدربة على الاستفادة من الثغرات والإخفاقات والإهمال والتقصير وبين هيئات حائرة وضائعة ولا تملك برنامج أولويات يحدد الخطوات المدروسة والواعية التي ينبغي اتخاذها لمنع الاختراق أو الانجرار نحو اقتتال سياسي أو أهلي. وما يحصل في فلسطين اليوم من مصادفات ومفارقات ومصادمات حصل فيها في فترات سابقة وأدى عدم الانتباه وقلة الاكتراث والتباهي بالقوة والتفاخر بالانتصارات إلى ارتكاب أخطاء وفتح الأبواب للمزيد من الانكسارات والتراجع.
لا يوجد في فلسطين اليوم هيئة محاسبة ومراجعة تضبط مراكز القوى ضمن جدول أولويات يمنع على الفصائل تجاوزه أو اختراقه على حين نجد 16 جهازا للأمن يتضاربون ويتهاوشون على الصلاحيات واقتسام النفوذ. وهذا بحد ذاته يشجِّع حكومة أولمرت على اللعب لتأجيج النيران الداخلية كذلك الناس نحو مغادرة البلاد إلى مكان آمن.
«إسرائيل» الآن تحتفل بذكراها وتستعد وتتدرب وتناور وتحتال وتغذي قوتها العسكرية بطائرات حديثة وتعزز اقتصادها بالمال والمساعدات الأميركية بقصد تجاوز «الإخفاقات» والاستفادة من الثغرات والعثرات والأخطاء لتكون جاهزة حين تأتي الساعة وفي المقابل نجد الأطراف المؤتمنة على فلسطين تتناحر على السلطة وتنكث العهد الذي قطعته في مكة.
هذه المفارقة قد تكون حصلت مصادفة في ذكرى تأسيس «الدولة العبرية» ولكنها مؤذية في سلبياتها وإشاراتها السيئة. فالكيان الذي تأسس قبل 59 سنة على القهر والاستيلاء والطرد يستكمل سياسة تهجير الفلسطينيين مستخدما الحصار الدولي إطارا للموت البطيء على حين السلطة التي تدعي أنها مكلفة بإنقاذ ما تبقى لإنقاذه تتجاهل هجرة 10 آلاف فلسطيني شهريا وتتقاتل في الشوارع والأزقة الفقيرة بحثا عن موقع على مقربة من عدو يستعد للثأر والانتقام.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1713 - الثلثاء 15 مايو 2007م الموافق 27 ربيع الثاني 1428هـ