الأسبوع الماضي توفيت جدتي لأمي كلثم خليفة جبر العليوي، والمشهورة بكلثم الحمد نسبة إلى البيت الذي ترعرعت فيه، وهو بيت حمد بن راشد بن حمود العليوي. وقد تزوجت من سليل هذه الأسرة ودرة تاجها جدي المرحوم عبدالله بن حمد العليوي.
ميراث جدتي ليس ذهبا، وقطعا ليس هو ألماس، والأكيد أنه ليس نياطا أو نقودا معدنية. ميراث جدتي هو حكم ومأثورات وعبارات ذات دلالات تاريخية. جدتي مرجع تاريخي لكل ما هو قديم. مرجع لمعرفة الناس، ولأملاك البشر المستضعفين الذين نهب النهابة جزءا كبيرا منها، هي مرجع للقيم والعادات والتقاليد البحرينية الأصيلة. تعلمت منها المعاني، وهي التي تردد دائما «راعي المعاني فديته واللي ما عنده معاني فداني». حياتها بستان من التجارب والمعرفة.
حينما نسأل جدتي عن ممتلكاتها وعن «البيزات اللي عندها» تقول: عندي ستة ملايين، وهي تشير إلى أبنائها وبناتها: فاطمة، حمد، منيرة، لطيفة، خليفة وعائشة... وتقول هؤلاء هم الستة ملايين.
كانت جدتي صاحبة نفوذ في العائلة ولا يستشار بعد رأيها، كانت نافذة بكل ما في الكلمة من معنى، نافذة بمكانتها في المجتمع المحلي والبيئة المحيطة في الأسرة كما في الفريج.
كانت صاحبة شخصية قوية، حججها دامغة. تتحرى الدقة في الحكم على الناس، لا تستعجل الأمور، نشيطة في تحركاتها «الدواعيسية»، ومساعيها كثيرة في إصلاح ذات البين، وفي التوفيق بين الرؤوس بالخير. ساعدت الكثير من الناس، بالرأي والحكمة والمال. ومن شدة ثقتها بنفسها واعتزازها بشخصيتها كانت تقول: «أنا كلثم الحمد اللي عليها المعتمد». ونحن صغار كنا نضحك من عباراتها التي دائما ما تحوي طباقا وجناسا وشعرا وحكمة، تتلفظ بكلماتها على السليقة دونما تكلُّف.
شخصيتها أخاذة، تستقطب كل من يتحدث معها ليستمع إليها ويُعجب بمنطقها ومعانيها، كانت «راعية معاني» كما يقال. نسجت علاقات إنسانية كثيرة، من الكويت إلى البحرين، من المحرق إلى جو إلى الرفاع والزلاق، إلى قرى بعيدة في مناطق مختلفة. كانت شخصيتها القوية مستمدة من كثرة من العوامل، تتداخل فيها قيم القبيلة والطيبة وحسن المعشر وقيم بحرينية أصيلة.
لها قدم سبق في الترتيب «للكشتات» والنذور التي كان يقوم بها أهل ذاك الزمان، كشتات إلى الشيخ إبراهيم وصعصعة والنبيه صالح، والتينة والسايه وغيرها من أماكن، اتذكر أنني رافقتها في بعضها حينما كنت صغيرا لم أتجاوز السابعة من عمري... كانت تعين المحتاج، وتواسي الحزين، تقوم بواجباتها الاجتماعية (المواجيب) وتحث الآخرين على القيام بها، كانت مثلا أعلى لنا في التواصل مع الناس والارتباط بهم، تعلمنا منها الكثير.
حفظت جزءا كبيرا من القرآن الكريم، وعلمتنا كثيرا من المعاني السامية. حياتها مخزون تراثي ضخم يضم بين دفتيه الحكايات والقصص الهادفة؛ حكايات الشرف والمروءة والصبر والشجاعة والقوة.
ميراث جدتي، وغيرها من كبار السن، ينبغي الحفاظ عليه، ويقول الإخوة المصريون: «من فات قديمه تاه»، ونقول بالمثل الشعبي البحريني: «اللي ما له أول ما له تالي». لذلك فإننا في البحرين نخسر كثيرا من وفاة أحد كبار السن، وخصوصا من حُفّاظ تاريخنا الاجتماعي وومضاته الإيجابية المضيئة.
رحمهم الله جميعا، ورحم الله أمي كلثم.
إقرأ أيضا لـ "محمد العثمان"العدد 1711 - الأحد 13 مايو 2007م الموافق 25 ربيع الثاني 1428هـ