الكثير ممن لا يعنيهم أمر التواصل مع الآخر والاتصال به، كانوا يتندرون على (وجبة الشوربة) التي كانت (المؤسسة الإسلامية في تورنتو) بكندا تبذلها كل يوم سبت منذ العام 2005 إلى كل محتاج أتى إليها، وتوزعها مع غيرها من الطعام على ما يقرب 300 عائلة من المشردين في منطقة «سكاربورو»، لقد حملت هذه المؤسسة على عاتقها مهمة التواصل مع الغير (الآخر) منذ العام 2001م وتحديدا بعد حوادث 11 سبتمبر/ أيلول، بكل صوره وأشكاله، فكانت تسعى لعقد اللقاءات الخاصة مع رئيس الوزراء ستيفن هاربر، واطلاعه على الأوضاع التي يعيشها المسلمون في كندا مباشرة من دون وساطة من أجهزة الأمن التي تعد التقارير، ومن دون انتظار من أي عدو متربص يوصل الصورة مشوهة إلى أجهزة الدولة، ومن دون أن تترك مجالا للهواجس والظنون والتفسيرات أمام أي حدث أو قضية، بل كانت هذه المؤسسة هي المبادرة والسباقة إلى رسم الصورة وتوضيح حدودها كما هي.
لم تغفل المؤسسة الإسلامية في تورنتو دور الإعلام، وأثره في صناعة الرأي العام، وتشكيل عقلية الكنديين، وسلوكهم وتصرفاتهم تجاه الآخرين، فانبرت تعقد المؤتمرات الصحافية، لتتناول فيها الكثير من الأخبار والإشاعات والتصورات التي تمس المسلمين أو تهمهم، ساعية إلى تصحيح النظرة وتصفيتها من الشوائب والمبالغات والتحريفات، لإخراجها من السياقات الملتوية، ولتكون وطنية في سياقها الصحيح والسليم والحقيقي المطابق تماما لما هي عليه من الانسجام مع محيطها العام.
لقد سعت هذه المؤسسة إلى ما هو أبعد من توضيح الواقع السياسي للجاليات المسلمة في كندا، فتحركت للتواصل مع غير المسلمين بهدف توضيح المعالم الأساسية للفكر الإسلامي وقضاياه الإيمانية، وواجباته العبادية، كل ذلك في حلة قشيبة ورونق جميل، يحكي جمال الدين وإنسانيته ومحبته للغير.
قرار التواصل في المؤسسة كان استراتيجيا وليس تكتيكيا، وكان ثابتا ولم يكن هامشيا قابلا للتنازل والمساومة، ولذلك كانت العراقيل التي تعترض الطريق، والقضايا التي تفتعل لتعطيل التواصل، والتشنجات التي يقوم بها المتضررون من التواصل، أوالبعيدون عن فهم حقيقته غير مجدية في إيقاف قطاره المنطلق.
لقد سخّرت تلك الاستراتيجية كل العراقيل وجعلتها وقودا لقرار التواصل الثابت بالنسبة إلى المؤسسة، والمحيطين بها من أبناء الجالية الإسلامية في كندا، فكانت ترفع من وعي الناس وإدراكهم بضرورة تصعيد وتيرة التواصل حتى تقترب المسيرة من وضع حد يحمي ذلك الوجود وينميه، ويجعله قادرا على الانسجام مع المحيط الذي يلفه بأقل مؤنة وكلفة، وبحد أقل من الضرر والتعدي.
لقد تأثر المسلمون كثيرا حين أعلنت الداخلية الكندية اعتقال 17 مسلما كنديا بتهم مرتبطة بأعمال إرهابية في العام الماضي على خلفية حوادث 11 سبتمبر 2001.
لكن هذا الاعتقال لم يوهن العزيمة، ولم يخفف وتيرة التواصل مع جهاز الدولة، ومع فعاليات المجتمع الكندي وإعلامه، ويسجل للمؤسسة أنها استفادت من موضوع الاعتقال استفادة حسنة، فتحركت بقضيتهم إلى أعلى المستويات، واستفادت من توجه الأنظار إلى الإعلام لتكون الحاضرة في الحدث، والمتحدثة باسم المسلمين في كندا، وقد مكنها ذلك من الوصول إلى غالبية وسائل الإعلام، والحضور في الكثير من البيوت التي لم تصلها حتى تلك اللحظة.
وفي مقاطعة «كيوبك» منعت المنقبات من التصويت في الانتخابات المحلية من دون الكشف عن وجوههن، فأثار ذلك موجة شديدة من الاستياء عند المسلمين الكنديين، لكن الحكمة في المؤسسة والوعي الواسع بين المسلمين، واستراتيجية قرار التواصل التي أشرت إليها، أرجع ذلك إلى التقصير في تعريف المجتمع الكندي ومؤسساته الفاعلة بالحجاب ومعناه وتعامل المسلمين معه، من دون أن ترتفع الأصوات لتنال من الغير وتصفه بالتعصب والعدائية والترصد.
«لا يوجد شك أن المسلمين مراقبون في المطارات، وأن هناك تأثيرا على الشباب المسلم لتعريف أنفسهم من خلال هوية مسلمة أقوى» هذا ما تقوله السيناتور (موبينا جعفر) المسلمة الوحيدة من بين (195) سيناتورا في مجلس الشيوخ الكندي، لكنها تضيف «لا يمكن لنا أن نفعل أكثر من أن نؤثر على محيطنا بأفضل طريقة ممكنة» («الشرق الأوسط» 30/4/2007).
فهو التواصل إذا على رغم كل الأزمات والمضايقات والضغوطات، لأن البديل عنه هو التوقف والتردد واجترار الألم والتحسر، ورفع وتيرة الصراخ والضجيج من دون برنامج أو تصور أو فعل، وهنا يُظلم المجتمع أكثر من مرة، فمرة حين يظلمه بعض الآخرين ويسيئون التعامل معه، ومرة أخرى حين يظلم نفسه، فيستعيض عن مبادرات التواصل وتعريف نفسه ورفع الالتباسات عنه، بالصراخ الذي يحركه مع المحزونين مثله من أبناء جلدته، ويظلم نفسه ثالثة حين لا يعي أو يتعامى عن كيفية تشكّل القناعات وأرضية القرارات، فيبقى في معزل عن محيطه العام، متأملا أن يتحرك الآخرون نحوه بدافع العدل والمساواة، أو بدافع الزعل والانطواء الذي يعتقد أنه أشعرهم به.
الخلل فينا فلنبذل المزيد من الجهد والوقت للتعريف بأنفسنا ، هذا هو الشعار الذي تنادي به (المؤسسة الإسلامية في تورنتو) وهو الذي يجعلها قادرة على تجديد الجهد ورفع وتيرته ودفع الناس باتجاهه، ومن ثم تحصيل ما ينفعهم ويفيدهم ويدمجهم في مجتمعهم ويحميهم، وللموضوع تتمة.
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 1711 - الأحد 13 مايو 2007م الموافق 25 ربيع الثاني 1428هـ