لم يكن لديانة ما أن تنحو نحو تأسيس رؤية متكاملة تقتضي تهميش/ إهمال/ تحجيم/ توبيخ/ تقريع «السياسة» كما فعلت الديانة «البوذية». إذ تمثل هذه الحركة الدينية التي انطلقت في القرن السادس قبل الميلاد كردة فعل على الدين «الفيدي» المتغول أقل الديانات تعلقا بالسياسة واهتماما بها وأكثر الديانات احتقارا لكل ما هو «سياسي» أصلا.
ولا يعني ذلك بالضرورة، أن نصور «البوذية» عند حدود كونها حركة روحية تعتمد على نطاقاتها الأربعة (الإحساس بالألم، الوصول إلى سببه، الطريق للتخلص منه، والانفصال الكلي والفراغ التام) فحسب. فالبوذية التي اشتغلت بالسياسة - مرغمة على ذلك كما تذهب أدبياتها - كانت تمتلك رؤية سياسية ما، وإن كانت هذه الرؤية تقتضي تهميش السياسة واستصغارها، ولا يعتقدن أحد ما بأن ثمة «تناقضا» ما، قد جرى للتو في العبارة السابقة.
يعتقد «بوذا»، وتسمية بوذا تعود إلى أصل رجل دلالة أسمه أنه من «أوحيت الحقيقة له» ونحن أناس نحترم الخرافات، يعتقد أن السياسة في حد ذاتها أمر «سيئ». ويدين «بوذا» السياسة بوصفها عملية صناعة امتياز لفريق اجتماعي دون الآخر او حتى بوصفها عملية فصل طبقي اجتماعي. يقول: «لا تعطي الولادة أي امتياز» ويعني: أن البشر كائنات متساوية تتقدم للفناء المطلق. بوذا الذي ينتصر لـ «الأخلاقي» على «السياسي» يعتقد أن علم في السياسة في حد ذاته - بوصفه علما خاضعا لأوامر خاصة تستدعيها مصلحة الدولة العليا - علم فاشل وتعيس. بل يصفها بأنها وقوع متعمد - لا محالة - في مناقضات اخلاقية مباشرة، هي وقوع مباشر في «الأنانية» و«الفظاظة» و«الشهوة».
ويقول البوذي ديغا نيكايا «لنختر شخصا من بيننا كي يستشيط غضبا حين يتطلب الأمر ذلك، ولنعطه حصة من الرز مقابل ما يقوم به». تصور البوذية صناعة «السياسيين» بهذه الصورة إذ نصنع نحن العامة اللاسياسيين «السياسيين» لندفع لهم أعصابنا/ أموالنا/ أوقاتنا/ اعتصاماتنا/ ولاءاتنا/ أصواتنا الإنتخابية. ونحن بذلك، ندفع قيمة ما نصنع بأنفسنا. والسؤال وفق الرؤية البوذية هو «ما حاجتنا لذلك أصلا؟».
مثل أميركي قرأته قبل يومين لخص الرؤية السياسية البوذية بشكل حديث يقارب حالنا اليوم، يقول «السياسة: هي فن الظفر بالمال من الأغنياء، والتأييد من الفقراء بحجة حماية أحدهما من الآخر». وما بين مقررات «الديانة البوذية» و«المثل الاميركي» نتموضع نحن البحرينيين بذكاء لا ندرك في الحقيقة حجم «التعاسة» التي نصنعها بأيدينا لأنفسنا دون أن ندري.
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 1711 - الأحد 13 مايو 2007م الموافق 25 ربيع الثاني 1428هـ