وافقت الإدارة الأميركية على موضوع التفاوض مع إيران بشأن الملف العراقي بعد تردد يعكس ذاك التجاذب الداخلي بين توجهات وزارة الخارجية ومكتب نائب الرئيس ديك تشيني. الموافقة تعني سياسيا خطوة تراجعية في التعامل الأميركي مع الكارثة العراقية وتداعياتها الإقليمية. في السابق كانت واشنطن ترفض التفاوض بعدها تراجعت فوافقت على مبدأ التفاوض بشروط ثم تراجعت لتختصر شروطها في بند واحد: وقف مشروع التخصيب النووي.
الآن كما تبدو الأمور في ظاهرها اتجهت واشنطن نحو القبول بالتفاوض من دون شروط. وإذا أسقطت الإدارة الأميركية رسميا شرط «وقف التخصيب» ودخلت في مفاوضات مع طهران بشأن العراق فمعنى ذلك أن واشنطن وافقت فعلا على فكرة «التعايش» مع إيران واعترفت بها «قوة إقليمية صاعدة» في المنطقة كما صرح مرارا الكثير من المسئولين في الاتحاد الأوروبي.
فكرة «التعايش» ليست جديدة على الذهنية الأميركية فهي تعتبر وسيلة من وسائل ضبط الإيقاع السياسي حين تصل الضغوط إلى حائط مسدود. داخل الإدارة الأميركية هناك ما يشبه التعايش بين وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس ونائب الرئيس تشيني. كذلك هناك ما يشبه التعايش بين أميركا وفرنسا في عهد شيراك في إطار المنظومة الدولية وامتداداتها «الشرق الأوسطية». حتى على مستوى جامعة الدول العربية هناك ما يشبه التعايش بين دول تعترف بـ «إسرائيل» وتقيم معها العلاقات الدبلوماسية ودول لا تعترف ولا تقيم علاقات مع «إسرائيل».
مسألة «التعايش» فكرة سياسية معقدة تتبعها الدول حين تتوصل إلى نتيجة تتطلب الحسم بهذا الاتجاه أو ذاك. وحين تجد الدول أن أوضاعها غير ناضجة كفاية وأنها غير قادرة على الحسم بهذا الاتجاه أو ذاك تلجأ إلى سياسة «التعايش» مع الأمر الواقع. فالتعايش هو القبول بالأمر الواقع من دون حاجة للاعتراف به، وهو لا يرتقي إلى مستوى الحل وإنما يذهب باتجاه تأجيل الحل حتى تكتمل عدة الحسم.
هذا على الأقل ما يمكن فهمه من موافقة واشنطن على القبول بمبدأ التفاوض مع إيران على المسألة العراقية من دون شروط. وإسقاط شرط «وقف التخصيب» تعني بداية تعايش مع أمر واقع من دون حاجة إلى الاعتراف به.
الموقف الأميركي الذي استجد في منتصف جولة تشيني للمنطقة وبعد تصريحات عنيفة ضد إيران أطلقها نائب الرئيس من ظهر حاملة طائرات وصواريخ هجومية في مياه الخليج، يكشف عن احتمالات كثيرة منها أن تشيني لم يحصل على ما يريد من الدول العربية التي زارها. وعدم أخذ ما كان يطمح إليه أعاد ترجيح كفة رايس في إدارة السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
إدارة جورج بوش كانت حائرة ولاتزال في اتخاذ قرارات نهائية بشأن ملفات المنطقة الساخنة. والضياع الأميركي يعكس داخليا تلك الازدواجية في السياسة، وهي ازدواجية كانت تبحث عن قوى إقليمية رديفة تطلب منها المساعدة لحسم التوجهات العامة. تشيني في جولته الثانية خلال ستة أشهر أراد كسب موقف عربي يعيد ترتيب جدول أولوياته بما يتناسب مع استراتيجية تقويض اعتمدها تيار «المحافظين الجدد» في السنوات الست الماضية. رايس التي لم تكن بعيدة عن مناخات ذاك التيار الفاشل اكتشفت خلال تجوالها الدائم على عواصم المنطقة أن هناك حاجة ملحة للتغيير ولابد من إعادة قراءة الملفات الساخنة في سياق إقليمي لا يتوافق بالضرورة مع توجهات تيار «المحافظين الجدد».
هذا الاختلاف بين رايس وتشيني يمكن ملاحظته من خلال متابعة السلوك الأميركي في اجتماعات ولقاءات ونظرات قمة شرم الشيخ وتلك التصريحات التصعيدية التي أطلقها نائب الرئيس على حاملة الطائرات وقبل توجهه إلى أبوظبي وتبوك. في تبوك تم التوافق الأميركي - السعودي على «المعالجات الصائبة». وهذا يعني في اللغة الدبلوماسية أن الرياض تبحث عن حلول سلمية للملفات الساخنة كذلك الإمارات وعمان والقاهرة.
خفي حنين
يرجح أن تشيني خرج بـ «خفي حنين» من جولته التي لم تنتهِ فصولها حتى الآن. وقبل أن تنتهي أعلنت واشنطن موافقتها على المفاوضة مع طهران بشأن بغداد، ترافقت مع بدء زيارة للرئيس الإيراني لدولة الإمارات وهي الأولى من نوعها منذ أكثر من 20 سنة.
العلاقات الإيرانية - الإماراتية هي مثال آخر على فكرة «التعايش» بين طرفين يختلفان على الجزر الثلاث ويقيمان في الآن أفضل العلاقات التجارية والاستثمارية. فالتعايش الإيراني - الإماراتي يؤكد احتمال الفصل بين السياسة والتجارة وعدم ربط الأزمة الإقليمية بالحاجات الاقتصادية ومتطلبات السوق. والفصل بين التجاري والسياسي الذي تقيمه الإمارات مع إيران نجد ما يشبهه بين بعض الدول الخليجية الذي فصل بين التجاري والسياسي في العلاقة مع «إسرائيل». «التعايش» إذا قد يكون شعار الولايات المتحدة في تنظيم العلاقات مع إيران في ضوء فشل تشيني في كسب التأييد العربي المطلوب لنجاح خطته، واحتمال عودة رايس إلى المنطقة لمواصلة البحث في تلك الملفات الساخنة والأوراق الإقليمية التي قدمت أساسا للتفاوض في شرم الشيخ.
الورقة الإيرانية التي رفعتها طهران للنقاش في القمة تضمنت الكثير من النقاط اللافتة في دقتها وتفصيلاتها، وربما تشكل قاعدة سياسة لنقاش كل الموضوعات الممتدة من العراق إلى غزة ولبنان. الورقة نشرتها صحيفة «الحياة» في عددها الصادر يوم السبت بتاريخ 5 مايو/ أيار الجاري. وتدعي الصحيفة أن الورقة التي تتضمن 13 بندا حصلت عليها من مصادر إيرانية رفيعة المستوى. ويمكن اعتماد هذه «الورقة» إطارا لمعرفة ما سيدور من مفاوضات أميركية - إيرانية بشأن العراق ما دامت الجهات المعنية لم تسارع إلى نفي ما ورد فيها.
تتضمن الورقة وضع برنامج محدد لانسحاب قوات الاحتلال من المدن والتجمع في قواعد ومعسكرات حتى لا يؤدي الانسحاب غير المبرمج إلى «إعادة خلط الأوراق». رفض تولي بعثي سابق رئاسة الوزراء وإعادة النظر في قانون اجتثاث البعث. المساعدة على عقد مؤتمر مصالحة وطنية يضم كل القوى والأطياف. إعادة النظر في الدستور وإدخال تغييرات على قانون الانتخاب وإعطاء الشيعة 60 في المئة والسنة 40 في المئة من حصة «مقاعد بغداد». إجراء انتخابات مبكرة والتوافق على رئيس جديد للوزراء. الاتفاق على توزيع عادل لعائدات النفط «بحيث يرضي الجميع». استيعاب رتباء الجيش العراقي السابق أو دفع تعويضات وبدل تقاعد لمن يريد منهم. وضع تصور للسيطرة على أنشطة الجماعات المسلحة في كردستان والرمادي والفلوجة واستيعاب الآخرين في الدولة والأجهزة «ممن لا يرتبطون بالجماعات الإرهابية». تولي عشائر وقبائل الوسط العراقي مهمة مواجهة عناصر القاعدة «من العراقيين أو العرب». تساعد إيران في السيطرة على الجماعات الشيعية المسلحة و «دمجها في الأجهزة الرسمية». رفض كل مساعي التقسيم أو فرض «فيدرالية مناطقية» ومنع أي من الأقاليم الاستئثار بالثروات التي يحتويها. وأخيرا تساعد إيران الحكومة العراقية في تنفيذ هذا البرنامج على أن تساهم لاحقا في «خروج مشرف للقوات الأجنبية من هذا البلد».
الورقة الإيرانية التي قدمت لقمة شرم الشيخ تضمنت 13 بندا بشأن العراق تشمل كل نقاط الاختلاف وهي تبدأ بخطوة تجميع قوات الاحتلال في «قواعد ومعسكرات» وتنتهي بخطوة «خروج مشرف». وبين الأولى والأخيرة هناك 11 بندا لابد من العمل أو المساعدة على تطبيقها بالتوافق والتفاهم والتضامن الداخلي. الورقة إذا دقيقة في تفصيلاتها باستثناء نقطة واحدة وهي عدم وضوح أو تحديد المهلة الزمنية التي تفصل بين خطوة «التجميع» وخطوة «الانسحاب المشرف». فهل البرنامج يقتضي سنة أو سنتين أو خمس سنوات أم أن الورقة تركت المدة الزمنية مفتوحة للتفاوض مع الإدارة الأميركية؟ هذه الورقة الإيرانية لابد أن تكون رايس اطلعت عليها في شرم الشيخ وأرسلتها إلى واشنطن لإبداء الرأي فيها. وربما كان الرد الفوري والمتسرع عليها إرسال تشيني إلى المنطقة في محاولة أخيرة لجس النبض قبل اتخاذ قرار الموافقة على التفاوض و «التعايش».
الآن وافقت واشنطن على فتح باب الحوار مع طهران من دون شرط «وقف التخصيب» فهل يستمر النقاش بين الطرفين في ضوء فكرة «التعايش» وبالتالي القبول ضمنا ببنود الورقة الإيرانية أم نشهد بعد فترة عودة جديدة لنائب الرئيس إلى المنطقة؟
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1711 - الأحد 13 مايو 2007م الموافق 25 ربيع الثاني 1428هـ