المصادفة جمعت في سنة واحدة الانتخابات الرئاسية في سورية ولبنان. والمصادفة لا تعني مطابقة في المواعيد والأساليب والإجراءات. فكل بلد يعتمد آليات تختلف عن الآخر إلى درجة متعارضة في الكليات والجزئيات. في سورية كل المسارات واضحة ومرتبة ومبرمجة ولا تحتاج إلى مراجعة وقراءة واجتهاد. أما في لبنان فالمسار يحتاج إلى فقهاء في القانون لمعرفة الخفايا وما تتضمنه من احتمالات قد تعرض هذا البلد الصغير إلى مزيد من الفوضى والتفكك وربما الاقتتال الأهلي.
الانتخابات الرئاسية في لبنان تحولت منذ سنوات إلى مشكلة دورية تختلط فيها الاجتهادات الدستورية بالطموحات الشخصية بالزعزعة الأمنية وعدم الاستقرار الأهلي. ففي كل منعطف رئاسي تظهر على سطح السياسة تجاذبات شارعية تضغط على الدولة (الضعيفة والمشلولة أصلا) وتمنع عنها مسئولية الإشراف على تنظيم انتخابات دستورية متوافق عليها بين مختلف الأطياف (الطوائف) اللبنانية.
كل ست سنوات هناك أزمة سياسية - دستورية في لبنان. وفي كل مرة تظهر من باطن الأرض (الطوائف) مراكز قوى ممتدة إلى خارج حدود بلاد الارز تأخذ بالضغط في هذا الاتجاه او ذاك لتعمد في النهاية إلى توظيف التوتر الأهلي واستخدامه داخليا لتشكيل غالبية نيابية تقترع لهذا المترشح او ذاك.
هذه التوترات كانت دائما تدفع بالكثير من الطامحين لمنصب الرئاسة بسحب ترشيحاتهم خوفا على وحدة البلد أو منعا من انزلاقه نحو مواجهات سياسية تهدد الاستقرار الأمني أو التوازن الأهلي. حصل هذا القلق في فترة الاستقلال حين تنافس بشارة الخوري (المدعوم بريطانيا) مع اميل اده (المدعوم فرنسيا). ثم تكرر الأمر ابان انتفاضة 1952 الدستورية السلمية فاضطر حينها الخوري إلى الاستقالة وانتخاب كميل شمعون (المدعوم من بريطانيا أيضا) رئيسا للجمهورية. وتكرر الأمر أيضا ابان انتفاضة 1958 الدموية الحمراء فانتهت ولاية شمعون الذي قرر عدم التجديد تاركا المنصب لقائد الجيش آنذاك فؤاد شهاب (المدعوم من الولايات المتحدة). وكادت الفوضى ان تنفجر في نهاية عهد شهاب إلا أن الأخير تدارك الموقف وقرر اعتزال السياسة مفسحا المجال لانتخاب الرئيس شارل حلو صاحب الثقافة الفرانكفونية الرفيعة.
خلال الفترة الشهابية التي امتدت على ولايتين (شهاب وحلو) من 1958 إلى 1970 انقسم البلد الصغير إلى تيارين: الأول اطلق عليه تسمية «النهج» وكان يدعم الإصلاحات الشهابية وسياستها المتوازنة بين العرب والغرب. والثاني اطلق عليه تسمية «الحلف» وضم آنذاك أقطاب الموارنة الثلاثة (كميل شمعون، بيار الجميل، وريمون اده) وكان يعارض الشهابية وخصوصا تجاوزاتها الأمنية التي عطلت جوانب معينة من الحريات المتوافق عليها لبنانيا. انقسام الشارع اللبناني آنذاك خلط ما بين السياسي والأهلي وكاد أن يودي بالبلاد إلى تهلكة إلا أن «العقل الدستوري» تدخل في اللحظات الأخيرة وانتخب سليمان فرنجية حلا وسطا وبفارق صوت نيابي واحد.
في عهد فرنجية اندلعت الحروب الأهلية/ الإقليمية في لبنان. فآنذاك تحولت الساحة إلى ملعب للصراع الدولي وخصوصا بعد وقوع حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 التي ترافقت مع بدء جولات هنري كيسنجر المكوكية بين القاهرة وتل أبيب ودمشق. أسفرت تلك الجولات التي تمت عشية انسحاب القوات الأميركية خائبة وفاشلة من فيتنام ولاوس وكمبوديا عن ترتيبات على الجبهتين المصرية والسورية. على المقلب المصري اتجهت القاهرة نحو السلم الذي تتوج بزيارة تل أبيب وتوقيع اتفاقات «كامب ديفيد». على المقلب السوري اتجهت دمشق إلى توقيع اتفاقات أمنية تضبط الحدود على الجولان ولكنها لا تنص على معاهدة سلام. الافتراق المصري - السوري في التعامل مع قضايا السلم والحرب انعكس مباشرة على لبنان الذي وضع مصيره في سياق مجهول تتجاذبه قوى إقليمية تحت سقف اللاحرب واللاسلم.
آنذاك كانت الولايات المتحدة في عهد إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون تمر في فترة صعبة في جنوب شرق آسيا تشبه حال التخبط والضياع التي يمر بها الآن جورج بوش في العراق ومحيطه. وبسبب هذه الظروف الدولية الضاغطة على واشنطن أخذت الإدارة الأميركية تبحث عن مخارج تعيد بعض الاعتبار لسياسة «البيت الأبيض». وشكلت حرب أكتوبر مناسبة للثنائي نيكسون - كيسنجر للتلاعب والمناورة في «الشرق الأوسط» للتغطية على «مفاوضات باريس» التي بدأت بين أميركا وفيتنام.
خطأ جغرافي
حرب أكتوبر أعطت المجال الحيوي للسياسة الأميركية في المنطقة وفتحت الباب أمام واشنطن للتدخل المباشر في قضايا «الشرق الأوسط» ومن بينها لبنان. فآنذاك أعلن كيسنجر في تصريح - لم يفهم اللبنانيون معناه الا بعد فوات الأوان - يقول ببساطة: لبنان خطأ جغرافي.
من نافذة «خطأ جغرافي» عصفت بالبلاد الرياح الدولية والإقليمية وجرفت معها الطوائف والمناطق والمذاهب في حروب أهلية كانت كافية لتسديد ضربات لتوازنه الداخلي وإعادة صوغ هويته في سياق مخالف لفلسفة التأسيس (الصيغة اللبنانية). فالخطأ الجغرافي الذي أعلن كيسنجر عنه تحول فجأة إلى مجموعة أخطاء مذهبية وطائفية ومناطقية نجحت القوى الإقليمية في الاستفادة منها واستخدامها وسائط سياسية محلية للتدخل أو لتحسين النفوذ.
خلال فترة الحروب الأهلية / الإقليمية حافظ لبنان على لعبته الدستورية ضمن الضوابط والأعراف فانتخب في العام 1976 الياس سركيس رئيسا للجمهورية، ثم انتخب في ظل الاجتياح الإسرائيلي 1982 بشير الجميل فاغتيل فانتخب شقيقه أمين رئيسا إلى العام 1988.
في نهاية عهد الجميل الثاني وقعت أزمة دستورية ولم ينجح البرلمان في عقد اجتماع لانتخاب رئيس جديد فأقدم الرئيس على تكليف قائد الجيش آنذاك ميشال عون بتشكيل حكومة مؤقتة تدير شئون البلاد من بعبدا. هذه السابقة الدستورية أدت إلى انشطار لبنان سياسيا وتوزعه على حكومتين واحدة برئاسة الجنرال عون وأخرى برئاسة سليم الحص. ودخل البلد بسببها في سلسلة حروب قادها الجنرال ضد القوات السورية مرة وضد حكومة الحص مرة وضد «القوات اللبنانية» مرة. وكانت النتيجة هي إسراع مختلف القوى إلى الطائف في السعودية والبدء في التفاوض لإنتاج حل سياسي/ دستوري للازمة المستعصية. وجاءت محصلة التفاهم لترد الاعتبار للدستور فانتخب رينيه معوض رئيسا فاغتيل بعد شهر فانتخب الياس الهراوي الذي اضطر للمكوث خارج قصر الرئاسة في بعبدا منتظرا الفرصة المناسبة لممارسة صلاحياته.
التوافق اللبناني رفضه عون الذي تمسك بالكرسي إلى أن حصل التفاهم السوري - الأميركي بعد دخول الجيش العراقي ارض الكويت في صيف 1990. وكانت المحصلة هي اقتحام القوات السورية القصر الجمهوري في بعبدا في خريف ذاك العام والبدء من جديد في ترميم الدولة وتحرير ما تبقى من أراضي الجنوب.
هرب عون إلى السفارة الفرنسية في بيروت كشف آنذاك عن خفايا الصراع الفرنسي - الأميركي على «الشرق الأوسط» واظهر لبنان رقعه سياسية في شطرنج التنافس الدولي. إلا أن محصلة التفاهم الدولي/ الإقليمي أعطت المجال للقوى اللبنانية في إعادة الحياة لجمهورية دخلت فضاء الموت.
خروج عون من القصر أعاد الهراوي اليه بعد مضي فترة ليست قصيرة على انتخابه. وحين انتهت ولايته في العام 1995 طالب بالتعويض عن تلك الفترة الضائعة بسبب استيلاء عون على قصر بعبدا. وبسبب التقاء مجموعة حسابات موضعية وإقليمية ودولية جدد للهراوي نصف ولاية (3 سنوات) انتهت في 1998 لينتخب الجنرال اميل لحود.
في نهاية ولاية لحود الأولى تكررت مشكلة الرئاسة اللبنانية فطالب بالتمديد نصف ولاية كما حصل لسلفه. وأدت المطالبة إلى توليد أزمة دستورية في ظروف دولية تشبه تلك الفضاءات التي شهدت تجاذبات أميركية/ فرنسية على موضوع العراق. إلا أن النتائج السياسية جاءت مخالفة لكل التوقعات. ففي العام 1990 تعارضت مصالح باريس وواشنطن وامتدت من العراق إلى لبنان بينما في العام 2004 توافقت المصالح الثنائية على تدويل القضايا اللبنانية بسبب حاجة واشنطن لباريس التي عارضت بشدة غزو العراق في العام 2003.
بسبب طمع لحود بالسنوات الثلاث دفع لبنان فاتورة سياسية كبرى تمثلت بالقرار الدولي 1559 الذي نص على نقاط كارثية ادت إلى تكليف البلد الصغير اكبر الخسائر بذريعة مخالفة الدستور.
الآن شارفت السنوات الثلاث على الانتهاء وبات لبنان على الرمق الأخير. فخلال الولاية النصفية اغتيل رفيق الحريري وعشرات السياسيين والصحافيين والمفكرين، وخرجت القوات السورية من لبنان في 2005، وتعرض البلد إلى عدوان تدميري في صيف 2006، وصدرت بشأنه سلسلة قرارات دولية آخرها 1701 الذي اشترط انسحاب حزب الله من الجنوب وانتشار الجيش اللبناني على حدوده.
ثلاث أرباع بنود القرار 1559 نفذت عنوة خلال السنوات الثلاث وبقي الربع الأخير وهو سحب سلاح المليشيات «اللبنانية» و»غير اللبنانية». وكل ذلك بذريعة التمديد. فالدول الكبرى استخدمت لحود «مسمار جحا» في قصر بعبدا لتمرير مشروع أدى إلى إعادة تشكيل الحياة الأهلية والسياسية من جديد وأضعف الدولة وزعزع استقرارها وعبث بأمنها ووضع مستقبلها على المحك.
الآن «عادت حليمة إلى عادتها القديمة». فلبنان على اعتباب استحقاق رئاسي في سبتمبر/ أيلول المقبل. ومنذ فترة بدأت ارتدادات الأزمة الدستورية الدورية تظهر على سطح السياسة وقبل أربعة أشهر من نهاية أسوأ نصف عهد شهده هذا البلد الصغير منذ تأسيس كيانه ودولته.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1710 - السبت 12 مايو 2007م الموافق 24 ربيع الثاني 1428هـ