العدد 1709 - الجمعة 11 مايو 2007م الموافق 23 ربيع الثاني 1428هـ

بريطانيا بعد غياب بلير

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

بعد سبعة أسابيع سيغيب رئيس الحكومة البريطاني طوني بلير عن الشاشة السياسية الدولية ليحل مكانه مؤقتا وزير المال غوردن براون بانتظار إجراء الانتخابات النيابية التي ستقرر بقاء حزب العمال في السلطة. هناك إذا مرحلة انتقالية بين غياب رئيس الحزب واحتمال مغادرة الحزب السلطة. وهذه الفترة الفاصلة بين محطتين تعتبر مهمة لأن الناخب ودافع الضرائب البريطاني سيراقب بدقة سلوك رئيس الحكومة الجديد ومدى قدرته على سد الثغرات وتجاوز الأخطاء التي ارتكبها سلفه. وأهم تلك النقاط ستتركز دوليا على محورين: الأول، العلاقة مع الولايات المتحدة وصلة لندن الاستراتيجية بالسياسة الأميركية. الثاني، الحرب على العراق ومدى استعداد الحكومة على التجاوب مع ضغوط الشارع وإلحاحه على وضع جدول زمني للانسحاب.

حتى تتوضح معالم الصورة في الأسابيع أو الشهور المقبلة يمكن القول من الآن إن بريطانيا دخلت مرحلة التغيير في اعتبار أن رئيس الحكومة الجديد أقل التصاقا من الغائب بالسياسة الأميركية التي تقودها إدارة جورج بوش. وهذا الاختلاف في التوجه الخاص لا يعني أن بريطانيا ستنقلب على نفسها وستتخذ خطوات متعارضة مع واشنطن في التوجه العام. فالعلاقات الأميركية - البريطانية قوية إلى درجة يصعب تصور دخولها في حال جمود وانفكاك وذلك لحسابات موضوعية ومصلحية مشتركة. فأميركا بحاجة إلى بريطانيا لترويض أوروبا وبريطانيا لا تستطيع الاستغناء عن تحالفها مع الولايات المتحدة في وقت تلعب ذاك الدور الخاص في تجسير العلاقة بين ضفتي المحيط الأطلسي.

ارتباط بريطانيا بالولايات المتحدة ينطلق من الحاجة. ويشكل ذاك الارتباط وظيفة سياسية لها تأثيراتها على موقع المملكة المتحدة واستمرار وحدتها التي تتألف من أربع قوميات توافقت قسرا على تأسيس دولة دستورية مشتركة. وهذا الجانب يفسر إلى حد كبير مخاوف بريطانيا أو ترددها في تطوير العلاقة مع الاتحاد الأوروبي. فالدولة البريطانية تدرك أن نمو النزعة الأوروبية يشجع القوميات الثلاث الأخرى على المطالبة بالانفصال أو الاستقلال عن المملكة المتحدة. وهذا التوجه الضمني يمكن ملاحظته من خلال مراقبة نمو شعبية الأحزاب القومية في سكوتلندا وويلز وايرلندا. فهذه الأحزاب الثلاثة حققت تقدما في كسب الشارع المحلي ونجحت في السيطرة على مقاعد في الانتخابات الأخيرة تقارب تلك التي حققها حزب العمال. وفي حال استمر نمو الأحزاب القومية إلى مستوى متقدم في السيطرة على المقاعد وكسب عطف الشارع السياسي فمعنى ذلك أنها تستطيع المطالبة بفك الارتباط التاريخي بالمملكة المتحدة والانتقال مباشرة للانضمام كدول مستقلة للاتحاد الأوروبي.

مشروع الاتحاد الأوروبي له تأثيراته البنيوية المباشرة على وحدة المملكة فهو من جهة يشجع النزعة القارية المشتركة ولكنه من جهة أخرى يدفع المشاعر القومية الضيقة إلى النهوض والمطالبة بغطاء بديل عن تلك المظلة البريطانية التقليدية.

ثنائية العلاقة

هذه العلاقة المضطربة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي هي أصلا نتاج تلك الاحتمالات المزدوجة التي تتوقعها لندن في حال تواصل نمو المشروع الأوروبي الاتحادي القاري على حساب تراجع المشروع البريطاني الأقوامي / الاتحادي. وبسبب هذا التخوف من المستقبل يمكن فهم الكثير من السياسات البريطانية المنحازة للولايات المتحدة حتى لو كانت على حساب مشروع الاتحاد الأوروبي. فالحاجة البريطانية للتحالف مع أميركا لها وظيفة داخلية تقوم على مبدأ حماية المملكة المتحدة من الانهيار واحتمال خروج سكوتلندا وويلز وربما ايرلندا الشمالية على الالتحاق بلندن والقومية الإنجليزية الكبيرة وذهابها باتجاه السوق القارية الأوسع كدول مستقلة.

مثل هذه الوظيفة الثنائية التاريخية من الصعب أن يتجاهلها بلير أو وريثه براون الذي يعتبر أول رئيس حكومة بريطاني سكوتلندي الأصل منذ 70 عاما. كذلك يرجح أن حزب العمال أو الأحزاب المعارضة (المحافظون والأحرار وغيرهما) أن تأخذ هذه الحاجة «القومية» في الاعتبار حين تقرر ترسيم حدود العلاقة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة. وبسبب هذه الخصوصية يستبعد أن تتخذ لندن خطوات كبيرة في فك الارتباط مع واشنطن، لأن «الفك» هنا يعني البدء في الانقسام أو على الأقل تطوير الارتباط هناك مع القارة الأوروبية.

هذه المعضلة البريطانية لا تعاني منها مثلا فرنسا. فالنظام الفرنسي يقوم على فكرة الدمج لا الاتحاد. والنزعة الجمهورية التي أسستها الثورة الفرنسية قامت على مبدأ التوحيد لا الائتلاف الأمر الذي يفسر حماس باريس لمشروع الاتحاد الأوروبي من دون ارتباك أو خوف على وحدتها الداخلية.

الاختلاف بين بلير والرئيس الفرنسي جاك شيراك، الذي سيغيب عن الشاشة الدولية بعد أسبوع، في التعامل مع الولايات المتحدة والمشروع الاتحادي الأوروبي ليس شخصيا وإنما تمليه اعتبارات موضوعية تتصل بالحاجة والوظيفة والمستقبل وما تعكسه من سلبيات وإيجابيات على الشخصية الدستورية للدولتين. فرنسا لا تستطيع الاستغناء عن أوروبا حتى لو كان وريث الرئاسة نيكولاي ساركوزي أكثر أميركية، لأن باريس إذا أرادت تطوير موقع الجمهورية الدولي تحتاج إلى قارة تعتمد عليها لموازاة القوى الكبرى المتنافسة على النفوذ. وبريطانيا لا تستطيع الاستغناء عن الولايات المتحدة حتى لو كان وريث بلير أقل أميركية، لأن لندن تريد مظلة دولية تمنع تفككها الداخلي في حال استمرت النزعات القومية الضيقة بالنمو على حساب وحدة المملكة الدستورية ولمصلحة وحدة اتحادية قارية.

إنها مصلحة وليست مسألة شخصية. فالدولة تحدد شروط العلاقات العامة بينما الرئيس (الجمهورية أو الحكومة) فإنه يملك صلاحيات محدودة لإدارة التوجهات الخاصة ضمن سلوك لا يسمح بتجاوز الدستور والحاجات والوظائف الموضوعية. وهذا يمكن أن نتابعه من خلال مراقبة التحولات في توازن القوى الانتخابية في فرنسا أو بريطانيا.

بعد سبعة أسابيع سيغادر بلير مقره في رئاسة الحكومة البريطانية، وهو سيكون الرئيس الثاني بعد شيراك الذي سيغيب عن الشاشة الدولية. وهذا لاشك يعتبر من المؤشرات المهمة التي ستترك انعكاساتها على سلوك الولايات المتحدة في أوروبا و «الشرق الأوسط». فبريطانيا تعتبر دولة كبرى وتملك حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن كذلك فرنسا. وحين تطرأ تحولات على التمثيل السياسي في رأس دولتين كبريين في وقت متقارب فمعنى ذلك أن هناك متغيرات لابد من حصولها. ولكن المتغيرات لن تكون انقلابية كما هو حال الدول التي تعتمد على مزاج الفرد (الرئيس القائد والمعلم والملهم والمهيب) لا معادلة الدستور وتداول السلطة واحترام مصالح الأمة وحقوق الإنسان.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1709 - الجمعة 11 مايو 2007م الموافق 23 ربيع الثاني 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً