يوجد لدى كل شخص قائمة من القضايا والمشكلات والتحديات التي يعتبرها ملحة، وموضوعية، ومقلقة وذات صلة، بناء على خبراته وتحيزاته وحساسياته وأفضلياته وأولوياته.
اعتبر أنه من الأهم والأجدر التحدث عن تحديات الأمم الداخلية، والتي يعتبر ثلاثة منها من التحديات الرئيسية في هذا العصر.
يرتبط الموضوع الأول بـ «السيطرة الدولانية الجديدة». اضطرت الجمهورية التشيكية، وعلى غرار سائر الدول الشيوعية السابقة، إلى أن تخضع إلى عملية انتقال صعبة.
ولقد أدركنا في مرحلة مبكرة جدا أن هذا الانتقال يجب أن يصنع محليا إذ يستحيل استيراد نظام مصنوع في الخارج. وأدركنا أيضا أن هذا التغيير الجوهري لم يكن مجرد تمرين في الاقتصاد التطبيقي، بل هو عملية تطورية من صنع الإنسان، وأن علينا أن نجد طريقنا، «طريق التشيك»، نحو مجتمع واقتصاد فاعلين.
لقد نجحنا في التخلص من الشيوعية، ولكننا افترضنا بشكل خطأ، مثلما فعل آخرون، أن محاولات قمع الحرية، وتنظيم وضبط والسيطرة على المجتمع والاقتصاد بشكل مركزي هي أمور من الماضي وبقايا كاد أن يطويها النسيان. وللأسف، لاتزال الدوافع التي تحث على المركزية موجودة فيما بيننا. وأرى أمثلة على وجود هذه الدوافع في أوروبا وفي معظم المنظمات الدولية بدرجة أكثر من الولايات المتحدة، وإن كانت موجودة في أميركا أيضا.
إن سبب قلقي هو ظهور أفكار ونظريات جديدة وشائعة ورائجة جدا، تقدم، مرة أخرى، مختلف القضايا والرؤى والخطط والمشروعات على الحريات وحقوق الأفراد. فهناك الديمقراطية الاجتماعية، التي لا تعدو أن تكون نسخة أخف وأكثر اعتدالا من الشيوعية، وهناك الـ«حقوق الإنسانية»، المبنية على فكرة الحقوق الإيجابية المطبقة في جميع أنحاء العالم. وهناك أيضا الأممية وتعددية الثقافات و«الـحركة النسائية» والنظرية البيئية، وأيديولوجيات أخرى مماثلة.
انتهت الشيوعية، ولكن محاولات الحكم من أعلى ما زالت هنا، أو ربما أنها قد عادت.
التحدي الرئيسي الثاني أجده مرتبطا مع تجربتنا مع الاتحاد الأوروبي، بل ويمتد إلى أبعد من الاتحاد الأوروبي، لأنه يشكل جزءا من اتجاه أوسع نحو إزالة الدول القومية ونحو فوق - قومية وحوكمة شاملة عالمية الانتشار.
تجعلني الحساسية الخاصة التي أملكها والكثير من أبناء وطني، تجعلني أنظر إلى الكثير من الاتجاهات الحالية في أوروبا نظرة ناقدة. ويبدو أن المعارضين لي لا يستمعون إلى حججي. فهم يرفضون الآراء التي لا يريدونها. يتطلب فهم انتقادي معرفة التطورات التي حدثت في الاتحاد الأوروبي وتحوله التدريجي من مجتمع مكون من أمم متعاونة إلى اتحاد أمم غير سيادي، وكذلك معرفة الاتجاهات فوق القومية السائدة.
لقد كنت دائما من مؤيدي التعاون والمشاركة الودودة والمسالمة والتي تؤدي إلى إثراء متبادل بين الدول الأوروبية. ومع ذلك، أوضحت عدة مرات أن التحرك نحو أوروبا أقرب وأكثر ارتباطا من أي وقت مضى، وهو ما يسمى بـ«تعميق الاتحاد الأوروبي»، فضلا عن السرعة في تحقيق التكامل السياسي وميول أوروبا فوق القومية التي لا تدعمها هوية أوروبية أصيلة أو مثل أوروبية، تضر بالديمقراطية والحرية.
لا يمكن تأمين الحرية والديمقراطية، هذه القيم النفيسة والعزيزة، من دون ديمقراطية برلمانية داخل حدود وأراضي دولة واضحة المعالم. إلا أن هذا هو بالضبط ما تحاول النخبة السياسية الأوروبية الحالية ورفاقهم التخلص منه. أرى تهديدا رئيسيا ثالثا لحرية الفرد في النظرية البيئية. أفهم تحديدا القلق إزاء التدهور البيئي النهائي، ولكنني أيضا أرى مشكلة في النظرية البيئية، كفكر وأيديولوجيا.
تتظاهر النظرية البيئية بأنها تتعامل مع حماية البيئة. ولكن، وراء المصطلحات الرفيقة بالإنسان والصديقة بالطبيعة، يقوم أنصارها بمحاولات طموحة من أجل إعادة تنظيم وتغيير العالم والمجتمع البشري وسلوكياتنا وقيمنا بصورة جذرية.
مما لا شك فيه أن من واجبنا حماية الطبيعة بشكل رشيد من أجل الأجيال القادمة. ولكن، يستمر أتباع الأيديولوجية البيئية بعرض سيناريوهات كارثية مختلفة بقصد إقناعنا على تنفيذ أفكارهم. وهذا أمر غير عادل، بل أيضا في غاية الخطورة. والأمر الأخطر في رأيي هو المظهر شبه العلمي الذي تتخذه توقعاتهم التي كثيرا ما يتم دحضها.
ولو تمعنا في المعتقدات والفرضيات التي تشكل أساس أيديولوجية حماية البيئة، لوجدنا أنها تتمركز حول المظاهر التالية: عدم الإيمان بقوة اليد الخفية للسوق الحرة والإيمان بالسيطرة الكلية للدولة على الاقتصاد والأمور الاجتماعية؛ تجاهل الدور المهم والفعال للآليات والمؤسسات الاقتصادية، وخاصة تلك المتعلقة بحقوق الملكية والأسعار؛ سوء الفهم لمعنى الموارد والفرق بين الموارد الطبيعية المحتملة والحقيقية التي يمكن استغلالها اقتصاديا (التشاؤم المالثوزي فوق التقدم التقني)؛ الإيمان بهيمنة الآثار الجانبية على الأنشطة البشرية؛ تشجيع ما يسمى بمبدأ الوقاية الذي يعظم تجنب الخطر دون الالتفات إلى التكاليف؛ الاستخفاف بأهمية تحسين نمو الدخل ورفاه الإنسان طويل الأجل، ما يؤدي إلى تحول أساسي في الطلب تجاه حماية البيئة، والذي يستدل عليه من خلال ما يسمى بـ«منحنى كوزنتس البيئي»؛ وأخيرا، الإهمال الخاطئ للمستقبل، والذي ظهر بوضوح من خلال «تقرير ستيرن» الذي نال تغطية إعلامية كبيرة قبل بضعة أشهر.
إن جميع هذه المعتقدات والفرضيات مرتبطة بالعلوم الاجتماعية وليس العلوم الطبيعية. وهذا هو السبب الذي يجعل حماية البيئة، خلافا للإيكولوجية العلمية، لا تنتمي إلى العلوم الطبيعية ويمكن تصنيفها كأيديولوجية. تلك حقيقة لا يمكن أن يفهمها الشخص العادي والكثير من السياسيين.
ليس في نيتي هنا أن أعرض الحجج لدحض تلك الفرضية. الأمر الذي أعتقد أنه جدير بالاهتمام هو الاحتجاج ضد جهود ومحاولات أنصار البيئة التلاعب بالناس والتأثير عليهم. ستعيدنا توصياتهم إلى عصر سيطرة الدولة وتقييد الحرية. ولذلك، يتحتم علينا أن نضع خطا واضحا ونفرق بين الأيديولوجية البيئية والإيكولوجية العلمية.
*رئيس جمهورية التشيك، والمقال ينشر بالتعاون مع «مصباح الحرية»
إقرأ أيضا لـ "مصباح الحرية"العدد 1709 - الجمعة 11 مايو 2007م الموافق 23 ربيع الثاني 1428هـ