العدد 1709 - الجمعة 11 مايو 2007م الموافق 23 ربيع الثاني 1428هـ

تونس العتيقة... «البحرين» بحلة فرنسية

من «باب البحرين» إلى «باب بحر»

لا يسعك إلا أن تطرق بابا من تلك الأبواب التي تعلوها شبابيك مقوسة وتزين صفحاتها مسامير نحاسية، أملا في أن تدخل دارا من هذه الدور التي حافظت على كل شيء من روح ساكنيها السابقين. «دار ابن عبدالله، دار الأصرم، سيدي محرز، دار رسع، دار التريكي، دار المقدم، دار الوادي»... كلها أبواب لابد أن تطرق. دكاكين السوق العتيقة بتونس شحنة من التاريخ تفجر أحاسيس الزائر كما النور، لا مجال هنا لعدم التأثر... لكن التأثر، هنا، ليس هو كل شيء.

ندخل من «باب البحر». فتتداعب أنفاسك رائحة هذا المعمار الطاعن في القدامة، والذي لا يكاد يعيبه تعاقب السنين في شيء، حتى تأخذك أسئلة كثيرة تطال مخيلتك. أي أسرار تخفيها هذه المدينة، الغريب أنها لا تبدو جديدة على الذهن، هي ذاتها المدينة التي تعرفها بعد باب البحرين، عندنا في المنامة. يقف في محله بابتسامة عريضة، فيما راح البعض من الزوار يصطفون أمام محلته. أنواع عدة من الحلويات التي تتنافس مع ابتسامته في جذب الزبائن، هذا هو الحاج محمد الطيب المبزع ( 57 سنة). يقف في محله الذي ورثته عائلته منذ 173 سنة. كانت انطلاقة الرجل نحونا وترحيبه مدعاة ارتياح. لقد فهم الرجل بفطنة الشيوخ ما نريد. ثمة بريق ضوء وجدناه بين عيونه، يوشوش ببطء: «لا تقلقوا... سأكون دليلكم». ومن هنا بدأت جولتنا مع محمد الطيب.

أجابنا على بعض الأسئلة التي جئنا لأجلها، قبل أن يأخذنا مشيا على الأقدام نحو شارع الزيتون أو كما أخبرنا لاحقا بأنه كان يسمى «شارع الكنيسة». كانت تتقدم الشارع كنيسة بعثة بتونس (تم تحويلها الآن إلى مقرٍّ للمركز البلدي) . «700 معلم تاريخي في هذه المدينة. منها قصور للطليان، حمامات، مساجد، آثار... إلخ».

كانت الكلمات متسارعة من الحاج ونحن نلاحق ما يجود به علينا من معلومات وتأريخ. يقول: «إن تاريخ هذا البناء المعماري يعود الى ما يزيد على القرن. الإيطاليون من شيدوا هذه الصروح وأكملها الأتراك. وطبعا عمارتنا التونسية حاضرة». يضيف: «تتوزع هذه المعالم على مساحة تبلغ 4 هكتارات. تتقدمها السفارات الأجنبية. منها السفارة البريطانية». يقول الطيب: «تتفرق هنا وهناك بعض الأبنية العربية والتي تتشابه مع الأبنية الإيطالية، فالتونسيون استفادوا من الحضارات الأخرى التي احتلت بلادهم... في العمارة على وجه الخصوص». نرى في الأمام الكنيسة الإيطالية التي تحوّلت الى أول مدرسة نظامية بتونس إبان الاحتلال الفرنسي، بإشراف سِيدي صابر (يطلق عليه هنا نهج سيدي صابر)، وكان إماما للمنطقة «ولي». لعلنا أصبحنا قادرين على تمييز المعمار الإيطالي بطول البناء وأشكال النوافذ والأبواب المميزة.

المباني الإيطالية تحولت إلى جمعيات اجتماعية وخدمية وثقافية، مثل (معهد حدماء مهد نهج الباشا) التي أسست منذ قرن من الزمان. يقول نائب رئيس بلدية تونس السابق: «إنها بمثابة الكلية بالمفهوم الحديث). أيضا، تنتشر هنا الجمعيات المهتمة بالتراث التي تصدر قوانين صارمة لتنظيم العمارة في تونس العتيقة وشارع الزيتون. حيث تقوم الدولة بإخضاع أي عملية ترميم لشروط خاصة وصارمة.

في المعمار التركي (العثماني) ثمة اختلاف عما عرفناه في المعمار الإيطالي. بناء محكم الإغلاق، وباب حديد بعرض أربعة أمتار يتصدر هذا البناء القوي. يقول الطيب: «هذه ثكنة عسكرية تركية بناها جاه سلطان». الأقواس المترامية في عدة من المباني كانت أولى مظاهر الأتراك والمعمار الإسلامي. ولعلنا وجدنا في المدرسة السليمانية التي أسسها علي باشا الأول 1754م ما كنا نبحث عنه. دار كبيرة يتوسطها فناء واسع. 26 أسطوانة تلتف بالفناء وجامع للصلاة تزين جدرانه تشاكيل «الجلّيز» الخزفي الملون بأشكال هندسية ونباتية. ثمة إحدى وعشرون غرفة ذات أبواب صغيرة وبجانب كل باب نافذة محاطة بإطار من الحجر السميك يسمى «الكذّال»، بينما يعتلي سطح البناء قبب خضراء متوسطة الحجم تعطي المبنى صورته العثمانية الإسلامية. منذ مئة عام تحولت المدرسة إلى دار الجمعيات الطبية بالسليمانية. يقول الطيب: «كان يقيم بها طلاب الطب بجامعة الزيتونة، إذ يسكن كل طالبين في غرفة صغيرة طولها ثلاثة أمتار وعرضها متران.

في نهاية المدينة العتيقة، تبدو في السماء منارة جامع الزيتونة. أسسه عبدالله ابن الحبحاب سنة 114هـ/ 732م. هنا تتجلى أول جامعة إسلامية تدرس بها علوم التفسير والفقه وكل العلوم وبها مكتبة كبيرة نقلت كتبها أخيرا إلى مكتبة تونس الوطنية. صوامع المتصوفة والأعمدة المتفرقة والأقواس الفارعة المنتشرة بكثافة وقرّاء القرآن الكريم كلها أطياف تحملك للماضي، هذا البناء لا يعرف الموت.

أسواق الشواشين (صناع الطاقية التونسية) يتوزعون في ممرنا الأخير وهنا المقاهي التي تعج بالآلاف من المرتادين من جميع الطبقات وما إن تخرج من آخر بوابة حتى ترى تونس الحديثة، شارع الحكومة والوزارة الأولى (ديوان رئاسة الوزراء) وكبريات وزارات الدولة بطابعها الحديث. هؤلاء التونسيون يصرون أن تبقى حواضرهم قريبة من تاريخهم التليد، لا يريدون أن تنفك أواصر الماضي. لهم منها عبق يستزيدون منه.

لمعلوماتك...

مطلع الشهر المقبل تبدأ رحلات الطيران المباشرة بين البحرين وتونس، إحداها ستكون مباشرة، والأخرى مرورا بالكويت. ومن المنتظر أن تزداد الحركة السياحية بين البحرين وتونس، تونس التي يقصدها ما يزيد على ستة ملايين ونصف المليون سائح ستكون محطة جميلة للعائلة البحرينية. إذ يتميز الطابع السياحي التونسي بقربه إنسانيا من الحياة في البحرين مع فوارق الطقس والمساحات الخضراء، التي تستحق التوقف.

العدد 1709 - الجمعة 11 مايو 2007م الموافق 23 ربيع الثاني 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً