تتشكل كل منظومة دينية من ثلاثة أجزاء أساسية وهي النص والاجتهاد والتاريخ، ويترتب على ذلك تفاعل هذه المساحات وتأثير كل واحد منها في الآخر.
ولكن هذا التفاعل قد يكون في سياق تكامل وانسجام بين تلك المساحات فيعبر عن صحة تلك المنظومة الحضارية، وقد يكون في سياق مفارقات بين التاريخ والنص أو بين النص والاجتهاد فيكشف عن خلل ما في تلك المنظومة، وهذا يدل على ضرورة البحث التضامني بين تلك المساحات بمعنى البحث (الأركيولوجي) العميق في مدى الترابط بينها، فلا غنى للباحث في الحالة الدينية عن البحث في الدوافع التاريخية للنص والاجتهاد كما إن عليه البحث كذلك عن مدى تأثير النص والاجتهاد في صنع التاريخ، فهي علاقة تبادلية يكون كل طرف فيها فاعلا ومنفعلا معا، ويمكن اعتبار هذا الكلام دعوة الى التوسع في باب الاجتهاد ليضم الى البحث في داخل النص نتائج البحث خارجه نظير نتائج الأنثروبولوجيا الدينية (البحث الاجتماعي في الظاهرة الدينية)، إذ من الممكن القول بأنه ينطبق على المضمون الديني خصائص الحدث التاريخي لا بمعنى إنه غير صالح للعمل به الآن كما قد يتوهم البعض، بل بمعنى إنه حالة ذات أبعاد لغوية ومضمونية تتفاعل مع طرف يعيش في التاريخ وهو الإنسان الذي تجلت حقيقته على طول الزمن الممتد آلاف السنين بكل نقاط ضعفه وقوته وخيره وشره وكل قيوده وحدوده، وليس الإنسان المثالي الحالم كما تصوره الفلسفة الأفلاطونية التي ترجمت الى الشرق واختلطت بالمضمون الديني من خلال كتب الأخلاق التي حاولت المواءمة بين تلك الفلسفة وبين النص فصنعت منهما مزيجا غير فاعل، وأقول «غير فاعل» لأنه يشتغل بالإنسان الوهمي أي الفوق تاريخي وفي سياق المثل العليا التي انبنت عليها أسس المدينة الفاضلة - والتي لم تتحقق أبدا في طول التاريخ البشري.
ولكننا نلاحظ أن النص القرآني مفعم بالنظرة الواقعية الى الإنسان نظير قوله تعالى في سورة الأحزاب في الآية 72: «وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا» وقوله تعالى في سورة الإسراء في الآية 11: «ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا» بل وكذا قوله تعالى في سورة طه في الآية 115: «ولقد عهدنا الى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما» بناء على أن «آدم» في الآية وما بعدها من الآيات إشارة الى طبيعة النوع البشري كما قربه العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان، وعلى ذلك فليس المقصود بتلك السياقات هو التشنيع على صنف خاص من الإنسان بل المقصود بها البيان والكشف عن واقع النوع الإنساني الذي لا يكون بمنأى عن تبعاته الا بعناية خاصة نظير قوله تعالى في سورة الأحزاب في الآية 33: «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا» فلو خلي الإنسان وطبيعته فإنه لا يزيد في أرقى حالاته عن أولئك الذين «خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا» (التوبة: 102).
وهذا النحو من الفهم الواقعي للإنسان يمثل انطلاقة صحيحة الى فهم أكثر وعيا بالنص وهو كذلك الأجدى والأقدر على دفع الاعتراضات على مضامين الدين وذلك لأنه يتجاوز أشكال المضامين الى تفهم مبرراتها الحقيقية، فلو أخذنا قضية فرض الجزية على أهل الكتاب مثلا (والتي يستخدمها بعض الناقدين سلاحا ضد أخلاقية الإسلام) فمن اللازم ملاحظة أن أهل الكتاب أنفسهم كانوا يفرضون الجزية على الأمم المغلوبة كما ذكر ذلك كتاب «المرشد الى الكتاب المقدس» والذي قام بنشره مجلس كنائس الشرق الأوسط ووزع منه أكثر من مليون نسخة حول العالم. فما فرضه النبي محمد (ص) عليهم هو في الحقيقة معاملة بالمثل تندرج تحت أساس عقلاني مبرر، ولذلك فإن كل الشرائع النظمية وحيانية أم غيرها تشترك في معنى الآية (194) من سورة البقرة «فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم»، وكذا آية القصاص (45) من سورة المائدة «وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص» فالقصاص هو الأداة الفاعلة لنفي القتل العشائري الفوضوي في سياق الأفعال وردود الأفعال حيث يؤخذ البريء بجريرة المذنب وحيث يكون الثأر متوارثا، فالقتل قصاصا هو الأنفى للقتل وذلك لأنه يقتصر على من يثبت عليه الجرم فحسب ولأنه يتم تحت سلطة القانون المحايد.
وفي هذا السياق أيضا الحديث عن مدى حرية الأديان في سيرة النبي محمد (ص) مقارنة بالتنظير الحديث لحقوق الإنسان، فقد أشرت في مقال سابق الى قصور هذه المقارنة وذلك لأنها تتم بين منظومتين مختلفتين في الفلسفة وفي خصوصيات المرحلة التاريخية فهي قياس مع الفارق، مع إننا لا نتعقل الانطلاق الى حرية الأديان من المنظومة الدينية ذاتها كما لا نتعقل ذلك في أي منظومة أخرى، فهل يعقل أن تسمح منظومة أخلاقية بما يتعارض معها ويضر بمبادئها؟ فلو نظر النظام الفكري أو الأخلاقي الى ما يخالفه بذات المستوى الذي ينظر الى ذاته لكان مناقضا لغرضه وجوهره سواء كان نظاما دينيا أو علمانيا، والنتيجة المترتبة على ذلك هي استحالة التوصل الى التعددية الفكرية أو الاجتماعية من داخل المضمون نفسه، فلا مناص عن النظر من خارجه ولكن لا على أساس ما اشتهر عن الإمام الشافعي «رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب» فإنها مقولة لا واقع لها وراء الكلام بل هي أشبه بالخيال، وذلك لأن الوجدان قاض بانسياق حامل الفكرة في اتجاهها وفي إطارها فحسب ولا يكون اعتناؤه بما يخالفها إلا على جهة السلب والسعي الى نفيها، فهذا واقع المذاهب الدينية والوضعية دوما، مع إنه لا يصح هذا التسبيب في حال المتصل بالوحي (المعصوم) الذي هو الحامل الأصلي للدين، إذ إن المفروض انكشاف الأمور له كما هي، فكيف يحتمل الخطأ في نهجه والصواب في نهج الآخر؟ وحينئذ فلا مناص عن تأسيس آخر ينطلق من أفق أكثر رحابة لا يقصر نظره على تكريس الدين الحق من داخله فحسب بل يتسع الى ملاحظة ما تنتجه محاولات الإكراه - قولا أو فعلا - على النهج الواحد من آثار وتبعات سيئة على الشأن الإنساني العام كما يشهد به تاريخ المذاهب منذ العصور الأولى، فقد نتج عن استغراق التنظيرات الدينية في النضال من أجل الدين او المذهب الحق في قبال الأديان أو المذاهب الأخرى - مع الغفلة عن الجامع الإنساني العام - أن استتبعت تلك التنظيرات أشكال الكراهية وصولا الى العنف القولي والفعلي، ولكني أرى أن ذلك لا يعني تلازما بين الدين ذاته وبين تلك الاستتباعات، إذ من المحتمل تأثر الاجتهاد بعوامل وأسباب لا تنتمي الى النص، فلو لاحظنا قوله تعالى في سورة الحجرات في الآية 13: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم» لأمكن أن نستشرف منها آفاقا تسمو على حدود التلوين المذهبي لتنفتح على المساحة الإنسانية الواسعة، فقد ذكر المرحوم آية الله السيد رضا الصدر في كتابه «تفسير سورة الحجرات» المطبوع بالفارسية تحت إشراف مكتب الإعلام الإسلامي في الحوزة العلمية بمدينة قم، أن المستفاد من الآية هو الارتباط بين التقوى وبين الغاية المذكورة فيها وهي التعارف بمعنى التكامل والتفاهم بين أفراد الإنسان، ولذلك فقد جاء في القرآن الكريم ما يدل على أقربية المعاني الإنسانية للتقوى نظير الآية 8 في سورة المائدة «اعدلوا هو أقرب للتقوى» وكذا في سورة البقرة الآية 237 «وأن تعفوا أقرب للتقوى» فهل نتطلع الى اجتهاد أكثر مواءمة لهذه المقاصد ينبثق عنه واقع تاريخي جديد أكثر احتضانا لواقع الإنسان مما هو عليه الآن؟ على أمل ذلك.
إقرأ أيضا لـ "الشيخ حميد المبارك "العدد 1708 - الخميس 10 مايو 2007م الموافق 22 ربيع الثاني 1428هـ