قبل بضع سنوات كتب الزعيم التونسي الإسلامي في المنفى رشيد غنوشي كتابا عن الحقوق العامة في الإسلام، وقد أشار إلى أن هناك أسبابا تاريخية محددة فصلت أوروبا بسببها بين الدين والدولة. فالكنيسة كانت قد أساءت استخدام سلطاتها ووقفت أمام التقدم العلمي، والدولة جعلت من الدين أداة للقمع. وهذا مقبول لأوروبا، بحسب قوله، ولكننا في العالم المسلم لا نتشارك بهذا التاريخ وعلينا أن نجد طرقا خاصة بنا لإدارة شئونا، طرق لها معنى لنا.
تعتبر هذه الاستجابة الإسلامية للعلمانية العربية معقولة إلى حد ما. وفي الاستجابات الأكثر تطرفا تعتبر العلمانية واحدة من قوائم الاختراعات الغربية غير المرغوبة، والتي تضم المادية والصهيونية والانحلال الخلقي والامبريالية، وهذه بعضها فقط من دون ترتيب محدد. وإذا بحثنا في الأكثر تطرفا نجد أن أسامة بن لادن له قائمة خاصة به.
لماذا يبدو أن المسلمين يجدون من الصعوبة بمكان رؤية أي شيء إيجابي في العلمانية الغربية؟ هل نحن مختلفون جدا؟ من الواضح أن هناك بعض الحركات الإسلامية الجادة في مناشدتها تحقيق تكاملا شاملا بين الدين والدولة، بحيث يسيطر الدين في الحياة العامة كما في الحياة الخاصة، إضافة إلى ذلك، يصبح النقاش مستحيلا تقريبا في بعض الطروحات المسلمة بسبب حقيقة أن الكلمة المستخدمة «العلمانية» تترجم إلى الإنجليزية «لا دين» أو «من دون دين». وهذه هي الحال مثلا في لغة الأوردو، بينما المعنى الأصلي للكلمة ببساطة هو ما يتعلق بهذا العالم مقارنة بالعالم الآخر.
إلا أننا عندما نغوص إلى ما أسفل سطح الموضوع تصبح الأمور أكثر تعقيدا، والأهم من ذلك أنها تختلف من دولة إلى أخرى. فالسعودية ليست مصر وإيران ليست باكستان أو سورية وهكذا.
من المؤكد أن المسلمين لا يحبون الكثير مما يرونه على أنه غربي: وحدة الفرد وانهيار الأسرة والدمار الذي يسببه الإدمان على المخدرات والعنف العشوائي والجنس كوسيلة للتسلية وهم طبعا ليسوا وحيدين في الشعور بالقلق، ومن الطبيعي الاعتقاد أن هذه الأمور جاءت نتيجة لانحطاط القيم الدينية. ولكن هذه أيضا صورة روجت لها وسائل الإعلام الغربية، وخصوصا الأفلام الأميركية التي يستطيع الجميع الآن مشاهدتها على شاشات التلفزة الفضائية.
إلا أن هناك وجهات نظر أخرى. في منتصف عشرينات القرن الماضي نشر الأستاذ بجامعة الأزهر الإسلامية العريقة العلامة المصري علي عبدالرازق، كتابا عنوانه «الإسلام وجذور الحكم» يناقش فيه بأن النبي محمد (ص) أرسى قواعد دين وليس دولة، لذلك فإن الدين يجب ألا يقرر هيكل الدولة اليوم. الكتاب جرت إدانته فورا ولم تعد له أية أهمية بحسب ما يخبرنا به معظم علماء المسلمين. ولكنه بقي موجودا ومازال في الإمكان ابتياعه من دور الكتب في القاهرة. إذا لابد أن أحدا ما يقرأه.
أوصلنا الحديث مع مجموعة من علماء المسلمين في بريطانيا حديثا، الذين ينتمون إلى الحركات الأكثر تزمتا، إلى موضوع «النظام الإسلامي». من الواضح أنه غير كافٍ أن يسمي نظام حكم أو نظام اقتصادي نفسه مسلما، بل يجب عليه أن يكون مسلما. ولكن ماذا يعني ذلك؟ وقد قادنا ذلك إلى أمور مثل العدالة الاجتماعية ونظام عدلي يُعتمد عليه، والحرية الشخصية والمساواة والمشاركة الشعبية وحكام قابلين للمساءلة، إلى غير ذلك. وقد غامر أحد هؤلاء العلماء بالقول إن دول التكافل الاجتماعي في أوروبا الشمالية «مسلمة» إلى درجة أبعد بكثير من أية دولة مسلمة أخرى في العالم بغض النظر عما تسمي نفسها.
إذا كانت هناك قيم مشتركة مهمة بهذا الشكل فلماذا إذا هذه المشاعر المختلطة عن مفهوم العلمانية؟ من الواضح أن الهجمة على العلمانية يقودها رجال الدين. إذا كان الدين في صورته التقليدية يُدفع إلى هوامش الحياة العامة فما الذي يبقى لهم؟ ولكن هذا بحد ذاته غير مرضٍ، فرجال الدين لهم جمهور واسع يتقبل وجهات نظرهم.
أما فيما يسمى بالشارع العربي فتعتبر العلمانية في معظم الحالات فكرة أجنبية مستوردة، أتى بها المستعمرون كأسلوب للحد من سلطة المؤسسات الدينية المسلمة التي زودت في معظم الأحيان صلب المقاومة للاستعمار، منذ غزا نابليون مصر العام 1798. وتعتبر الكثير من الدول المسلمة الحديثة وريثة للسلطات الاستعمارية. فالسياسة العلمانية ترتبط إذا بالدكتاتوريات العسكرية التي تأسست ونشأت بالتحالف مع القوى المتناحرة في حقبة الحرب الباردة.
واليوم، يأتي التحدي الفاعل الوحيد لهذا الميراث من الحركات الإسلامية، ويواجه الذين يناقشون لصالح المنظور العلماني خطرا مستمرا بأن يُتهموا بالتواطؤ مع الغرب. هذا التوجه الثنائي الدينامية هو الذي يرجّح تحول الكثيرين بعيدا عن العلمانية الحديثة والتعددية وباتجاه نظام سياسي ديني.
*مدير المعهد الدنماركي في دمشق وأستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة بيرمنغهام في المملكة المتحدة، والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 1708 - الخميس 10 مايو 2007م الموافق 22 ربيع الثاني 1428هـ