لا تصدق يا عزيزي أن حجاب زوجة المرشح الإسلامي لرئاسة الجمهورية التركية عبدالله غول، هو سبب الأزمة السياسية الراهنة في تركيا، والتي يصطدم فيها التيار الإسلامي السياسي «المعتدل» بالجيش والعَلمانيين... الأزمة أعمق!
ولا تصدق أن الأزمة المحتدمة هذه، أزمة تركيا وحدها، ولكنها أزمة كثير من الدول العربية والإسلامية، التي يدور فيها صراع محتدم بين النظم الحاكمة والتيارات العَلمانية والليبرالية من ناحية، وتيارات الإسلام السياسي المعتدل منها والمتطرف، من ناحية أخرى... فالأزمة - مرة أخرى - أشد عمقا وتعقيدا...
نعم، الأزمة بالتحديد تكمن في الصراع بين فكرين وايديولوجيتين، فكر وثقافة إسلامية ترتبط بتراث المنطقة، وفكر حداثي يستمد جذوره وتوجهاته من منتج الثقافة الغربية والعالمية، أي من القيم الديمقراطية والعَلمانية.
وقد شهدت العقود الأخيرة صعودا واضحا لتيارات الإسلام السياسي، بجناحيها المعتدل والمتطرف، متحدية نظم الحكم القائمة والمتراوحة بين الاستبداد المطلق، والاستبداد الأقل، وفي الوقت نفسه متحدية التغريب والتدخل الأجنبي بكل شروره الثقافية والعسكرية والاقتصادية والسياسية!
هنا يتمحور الجدل الساخن بين الديمقراطية والعَلمانية - وهي ليست الكفر والإلحاد - وبين فكر وتنظيمات الإسلام السياسي، وهو جدل لايزال قائما على معادلة الرفض المتبادل، فالتيارات الديمقراطية والعَلمانية ترفض قبول تيارات الإسلام السياسي، في منظومة الحياة السياسية؛ لأنها غير مؤمنة بقيم الديمقراطية، إلا من حيث الشكل، في حين ترفض تيارات الإسلام السياسي، الديمقراطية باعتبارها اختراعا غربيا، وترفض بالتالي العَلمانية باعتبارها كفرا وإلحادا.
وبقدر ما وجدت تيارات الإسلام السياسي، في الأزمات الاقتصادية الاجتماعية، والفقر والبطالة، فوق القهر السياسي واحتكار السلطة والثروة، رصيدا جماهيريا هائلا لتأييدها ودفعها إلى الأمام، بقدر ما ساعدت التدخلاتُ الأجنبيةُ - وخصوصا الهجوم الأوروبي الأميركي الهائل منذ حوادث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 على «الإسلام» كدين وعلى الإسلامين كمتهمين رئيسيين بالارهاب - القوى الإسلاميةَ القديمة والجديدة على اكتساب أرض جديدة كل يوم، وفي الوقت نفسه ساعدت على عرقلة التطور الديمقراطي السلمي، لبناء الدولة المدنية الحديثة!
وها هي أميركا بسياستها الامبراطورية الغازية، تقدم أفضل المساعدات والدعم إلى الإسلام السياسي، بل التطرف والتشدد الدينيين، بفضل حروبها المتغطرسة وتدخلاتها العلنية، من أفغانستان والعراق، إلى الصومال وفلسطين دعما لـ «إسرائيل»، وفي المقابل تساهم بشكل من الأشكال في اجهاض كل مبادرات الإصلاح الديمقراطي؛ بدعمها اللامحدود النظم الاستبدادية الحليفة لها في المنطقة، على حساب شوق شعوبنا إلى الحرية!
تركيا نموذج مختلف إلى حد ما، فمنذ سقوط الخلافة الإسلامية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، أقام مصطفى كمال أتاتورك، الجمهورية الجديدة العام 1923، ووضع الدستور الذي ينص في مادته الثمانية على أن تركيا جمهورية ديمقراطية عَلمانية، وأطلق ثورة للتخلص من كل «آثار ومخلفات» الخلافة الإسلامية، وحارب وقهر كل التنظيمات الدينية، وحرّم الحجاب، وتبنى الديمقراطية الغربية، سلاحا لإعادة بناء تركيا الحديثة عبر مؤسسات مدنية وجيش له سلطة التدخل والرقابة! ولقد ظل النموذج التركي «الديمقراطي العَلماني» جاذبا لكثير من المجتمعات، واتخذه الغرب نموذجا للتعايش بين الديمقراطية الحديثة والتراث الإسلامي، في دولة تحارب من أجل الالتحاق بالغرب، وتحديدا الاتحاد الأوروبي، الذي لايزال يرفض، وبعد أن التحق بعضوية حلف الأطلنطي، ظل الفضاء الأوروبي يشكك فيها!
وعلى مدى السنوات الماضية، ونحن نسمع ونقرأ ما تقوله واشنطن: إن النموذج التركي، هو النموذج الأصلح والأقوى، ليس فقط لتطوير المجتمعات والدول العربية والإسلامية، ولكن أيضا لمواجهة التطرف والارهاب... ولكن النموذج التركي الذي يلقى كل هذا الدعم والتأييد الغربيين، يقع الآن في مأزق عويص؛ بمحاولة حزب العدالة والتنمية، ذي الجذور الإسلامية، الوصول إلى رئاسة الجمهورية، ورئاسة الوزراء - التي يتولاها فعلا - والبرلمان، الذي تمتع بالغالبية فيه.
ولكن الأحزاب والتيارات العَلمانية والكمالية، المعارضة، وخصوصا حزب الوطن الأم وحزب الشعب الجمهوري، استغاثت بالشارع، مثلما استنفرت الجيش الذي تدخل رافضا وصول «رئيس إسلامي» إلى قصر الرئاسة، ودخول زوجته المحجبة المكان الذي يمثل الدولة، معتبرا ذلك عدوانا على العَلمانية، وهو - أي الجيش - الحارس الأمين على الجمهورية العَلمانية لن يسمح بذلك!
وسبحان مغير الأحوال... حزب العدالة والتنمية الإسلامي بزعامة رجب طيب أردوغان، استعان بأميركا والاتحاد الأوروبي؛ لدعم العملية الديمقراطية، والأحزاب الديمقراطية استعانت بالجيش لعرقلة وصول رئيس إسلامي إلى قمة السلطة، محرضة الجيش على الانقلاب على العملية الديمقراطية، وهو الذي قام بثلاثة انقلابات عسكرية خلال ثلاثة عقود، ثم ضغط على أول حكومة إسلامية بقيادة «اربكان» حتى أطاح بها وأجبرها على الاستقالة العام 1997.
على أن النموذج - المأزق التركي، بمراوحته بين العَلمانية والإسلامية، وبين الحكم الديمقراطي المدني والانقلاب العسكري، يعيد تصدير الأمر كله إلينا في المنطقة العربية خصوصا، مبلورا القضية في الاختيار الواضح، بين فكر وفكر، وأسلوب للحكم وأسلوب آخرَ.
غير أننا نرصد، أن الحركة والتطور الديمقراطيين في بلادنا، مؤسساتٍ وأحزابا وقوى وأفكارا، أقل نضجا من مثيلاتها في تركيا، على حين صعود تيارات الإسلام السياسي لدينا، أقوى وأكثر قدرة من مثيلاتها في تركيا ذاتها... وفي حين يطرح الغرب الأوروبي الأميركي، الإسلام التركي المعدل والمعتدل، نموذجا قابلا للتطبيق في البلاد العربية، فإن هذا الغرب المتحالف مع نظم الحكم عندنا، لايزال يشكك في قدرة الإسلام السياسي في بلادنا على الاندماج في العملية الديمقراطية، ومحاكاة النموذج التركين وهو يفضل بالتالي استمرار النظم الحالية، حتى وهي مستبدة وغير ديمقراطية!
ونقطة التركيز الواضحة أمامنا الآن تكمن في أن تيارات الإسلام السياسي بجناحيها المعتدل والمتطرف، تصعد بقوة، بعضها يلعن أنه يقبل قواعد اللعبة الديمقراطية، وبعضها الآخر يؤمن بضرورة تدمير هذه المجتمعات والنظم المستبدة الكافرة بقوة السلاح، رافضا القبول باللعبة الديمقراطية من أساسها... وبقدر ما مارس هذا الجناح تطرفه عبر تنظيمات متشددة، مثل «القاعدة» و «الجهاد» والجماعة الإسلامية والتكفير والهجرة والجماعة السلفية المسلحة وغيرها، بقدر ما عجز الجناح المعتدل عن إثبات إيمانه الحقيقي بقواعد العمل الديمقراطي السلمي، فمازالت الشكوك في نواياه تطارده!
والواضح أن البنية السرية والعمل تحت الأرض والمعارضة العنيفة والصدام المتكرر مع السلطة، التي حكمت قوى وأحزاب الإسلام السياسي الحديثة، وخرجت في معظمها من عباءة جماعة «الإخوان المسلمين» التي أسسها حسن البنا في مصر العام 1928، هي التي مازالت تحكم عقلية وسلوك هذه الجماعات حتى اليوم، فلايزال الإفصاح الحقيقي عن الاندماج النهائي في العملية السياسية الديمقراطية غائبا إلى حد كبير ولاتزال الاسئلة الملحة تطرح عليها، من دون إجابات محددة ولايزال البرنامج السياسي مشوبا بالغموض، ولايزال العمل السري قائما، ولاتزال في المقابل المطاردة الحكومية مستمرة ومتصاعدة.
تيارات الإسلام السياسي تنازع السلطات الحاكمة، على أحقية الحكم، والسلطات تطاردها وترفضها، اجترارا لتجارب عنيفة سابقة، والشعب بين هذا وذاك يحتار فيمن يختار... شكوكه تجاه التنظيمات السياسية الإسلامية قائمة ومستمرة، ومخاوفه من انفراد السلطة به واندفاعها في ممارسة القمع والقهر، تتصاعد يوما بعد يوم في ظل التطورات التصادمية والاحتقان المستمر.
المأزق الحقيقي، يكمن في تبادل الرفض المطلق بين كل هذه الأطراف المتصارعة، لا هذا يسعى جديا نحو الاندماج الكلي ولا ذاك يقبل احتواء الآخر؛ ولذلك يبدو أن الصراع سيطول ويتصاعد حتى لحظة الانفراج أو الصدام...
وعلى رغم أن تيارات الإسلام السياسي، نجحت خلال السنوات الأخيرة، في المشاركة العملية، سواءٌ عبر البرلمانات أو الحكومات، في بلاد مثل الأردن والمغرب والكويت واليمن ومصر «88 نائبا في البرلمان الحالي بنسبة 21 في المئة تقريبا»، فإن كل ذلك لم يقدم حلولا عملية للخلاف المحتدم، بين من يسعى إلى إقامة حكم إسلامي، ومن يعمل على إقامة حكم مدني ديمقراطي!
ولعل قراءة المأزق التركي، تدفعنا إلى ضرورة التعمق في دراسة هذا الملف الساخن اليوم والملتهب غدا... عندنا وليس في تركيا وحدها!
خير الكلام: قال الشاعر:
ويبقى بعد حلم القوم حلمي
ويفنى قبل زاد القوم زادي
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1706 - الثلثاء 08 مايو 2007م الموافق 20 ربيع الثاني 1428هـ