في أسبوع - إن كنت منسجما مع نفسك - لا يمكن أن ترى من أميركا إلا المظهر الخارجي أو القشور، أما الداخل فإنه تقريبا مستعص على الفهم، وبعيدا عن الرؤية. يقارن كثيرون في العالم القديم بين أميركا وبلدانهم، والمقارنة غير منطقية، فتاريخ أميركا وتكونها كمجتمع ودولة وصيرورتها التاريخية مختلف كل الاختلاف عن العالم القديم، فهي البلد الوحيد الذي يملكه تقريبا لا أحد، وفي الوقت نفسه كل أحد؟ هو البلد الوحيد الذي تكون فيه غريبا ومواطنا شاملا بعد حين، وهل كل ما تقدم أحجية؟ ربما، أتموا القراءة، كي نتبين على وجه التقريب ماذا يعني أن يكون هذا البلد الكبير مملوكا وغير مملوك!
الأسبوع الذي وصلت فيه إلى أميركا كان هناك حدثان كبيران، الأول زيارة ملكة بريطانيا لأقدم مستعمرة في القارة الجديدة، والحدث الثاني الاستعداد للانتخابات المقبلة لرئاسة الجمهورية في خريف العام 2008، أما في الشرق الأوسط، فقد كان هناك مؤتمر شرم الشيخ، وهو مؤتمر مفصلي لما يحدث في العراق الذي يوجد فيه أكثر من مئتي ألف مقاتل أميركي وربما يعتمد على نتائجه مستقبل المنطقة برمتها. الحدثان الأولان هما مركز اهتمام الإعلام الأميركي، أما الثالث فهو هامشي جدا. تلك هي أميركا.
سائق التاكسي في مدينة نيويورك الذي بالكاد لا يسمع عندما تحدثه إلى أية وجهة يريد الراكب أن يصلها، بسبب وضع سماعة التليفون النقال في أذنيه، وانشغاله بالحديث مع رفاقه الباكستانيين عن سياسات الهجرة، ثم يأخذك إلى نصف المدينة متعذرا أنه لم يسمع العنوان بالضبط، إلا أنك من المفروض أن تنقده كل ما يشير إليه عداد السيارة، لأن الخطأ في صوتك وليس في أذنيه، هذا السائق يعتبر أميركا خاصة به، فهو حُر بمعنى من المعاني أن يفعل بالراكب ما يريد ويطوحه في الشوارع، لأن ليس في القانون ما يمنع ذلك.
القانون حدد سقفا لمساهمة المواطنين في تمويل الحملات الانتخابية للمترشحين للرئاسة على ألا تتجاوز ما يساوي نحو سبع مئة دينار كويتي، إلا أن القانون يوضع من أجل الالتفاف حوله، فابتكرت الحملات الانتخابية لمرشحي الرئاسة الكثير من الطرق، منها أن المترشح براك اوباما وهو مترشح ديمقراطي أسود (في الحقيقة هو قمحي) لاختلاط في عروقه كما هي أميركا، قد خط طرقا جديدة في جمع المال، واحدة أن يستقطع كل طالب يجمع ألف دولار لحملته عشرة في المئة مما يجمع ويحتفظ بها حلالا له (يعني العاملين عليها)، كما عمل ثانيا على أن يتبادل المتبرعون له الهدايا فيما بينهم، أي من يدفع للحملة الانتخابية تبرعا يجد من يقدم له هدية من المناصرين، ويربط منظمو الحملة بين المتبرع ومقدم الهدية بالانترنت، وهذا لا يجرمه القانون ولكن جعل من حملة براك اوباما تجمع مليون دولار في أسبوع واحد. هيلاري كلينتون المترشحة الديمقراطية استخدمت شهرة زوجها الرئيس السابق بل كلينتون كي تجمعه بكل من يتبرع لحملتها الانتخابية للحديث الخاص معه، طول فترة الحديث ومكانها يعتمد على المبلغ المدفوع، لا يخرج المتبرع بالحديث بل أيضا بوعاء من البلاستيك لتعبئة الماء كتب عليه «هيلاري كلينتون». بعض المترشحين مستعدون لغسل سيارتك في عطلة الأسبوع إن قرروا جمع تبرعات مجزية للحملة التي يقودونها. أما آخرون فقد عرضوا ما يستخدمونه يوميا في المزاد للحصول على التبرع، فأنت تستطيع أن تحصل على «فأرة» كمبيوتر كان المترشح (الفلاني) يستخدمها أو حتى على قطعة البلاستيك التي توضع تحتها، أما المنشفة التي غسل بها المترشح وجهه في يوم قرر الترشيح، فهي غير مغسولة، إنها قطعة «تذكارية».
أفكار جانبية تهتم بها الصحافة لأن الموضوعات الرئيسية ليست جديدة. فالعشرة من المترشحين الجمهوريين الذين اجتمعوا لأول نقاش عام بينهم في مكتبة رونالد ريغن التذكارية في كاليفورنيا حائرون بين استمرار الحرب في العراق أو التضييق على القادمين والمهاجرين إلى أميركا، إلا أن نقدهم ينصب على إدارة الحملة العسكرية هناك لا على مبدأ التدخل نفسه، وهو أمر يكاد يشترك فيه الديمقراطيون أيضا ولو بشكل أقل. كل ما هو معروض على الساحة الانتخابية الأميركية حتى الساعة، أمور ليست مركزية ولا بالجديدة. قتلى أميركيون في العراق يوميا أقل بكثير من قتلى الطرق في هذه القارة الواسعة، وما يدفع في مصاريف الحرب ينشط الاقتصاد الأميركي ولا ينهكه. وهما أمران لو سارا بعكس ما يسيرا عليه لأثرت الحرب على السياسة الداخلية، إلا أن ذلك لم يصل إلى الحد «الخطر».
وعلى ذكر الاهتمام بالذكريات التاريخية تأتي زيارة الملكة البريطانية إليزابيث الثانية إلى أول مستعمرة بريطانية تم إنشاؤها قبل أربع مئة عام، والحدث في العام 2007 يذكر بحدث تم قبل أربعة قرون، المستعمرة اسمها مدينة جيمس في فرجينيا (العذراء). التي سميت على اسم سميتها إليزابيث الأولى. الملكة الثانية زارت المدينة (جيمس تاون) التي سميت تيمنا باسم جدها التي تنحدر منه بالرقم الثاني عشر، وهي ليست الزيارة الأولى لهذه المدينة والولاية التي تقع فيها، فقد زارت الملكة قبل خمسين عاما المنطقة في الذكرى الثلاث مئة والخمسين. إلا أن هذه الزيارة غير سابقتها، فهي تأتي بعد المذبحة في إحدى كليات فرجينيا والتي راح ضحيتها عدد كبير من الطلاب في الشهر الماضي، كما أن الزيارة تختلف هذه المرة بالاعتراف بأن من ساعد في بناء تلك المستعمرة في ذلك الزمن القديم هم المهاجرون بمساعدة العبيد من إفريقيا، وبعد مجزرة للهنود الحمر سكان المنطقة، التي كانت مجموعة منهم في استقبال الملكة. لذلك كانت الزيارة رد اعتبار متأخر قليلا لأؤلئك الذين ظٌلموا من الذين ظلموا. ومن سخريات القدر أن جيمس تاون هي أول من ثار على حكم الانجليز بعد أن أصبحت محطة كبرى لتجارة التبغ الفرجيني.
إلا أن اللافت أن زيارة الملكة في الإعلام الأميركي كانت جل أهميتها منصبة في الاستفتاء بين المشاهدين أن الملكة كانت تعتمر معطفا لونه وردي وقبعة سماوية يعلوها شريط وردي عند نزولها من الطائرة، والسؤال للمشاهدين، ماذا يمكن أن تلبس الملكة في حضور سباق الخيل المقرر لها؟ البعض قال إن لون قبعتها سيكون فضيا وآخرون قالوا إنه سيكون رماديا، ومنهم من قال إنها لن تعتمر قبعة! تلك الأهمية التي قابل بها الإعلام الأميركي تلك الزيارة!
ونعود للقول الذي بدئ به، إن أميركا بلاد مختلفة وكبيرة وأناس كثر، تستقطب من العالم أفضل العقول، بلاد غنية وواسعة ومن يرغب في أن يختصرها في مرحلة أو في سياسة ثابتة فإنه يرتكب أكبر الأخطاء التي يرتكبها البشر، وهي أمام عدم الفهم أو الفهم المبتسر والسطحي أحجية، هي بلاد تحكمها المؤسسات لا الأفراد ولا القوى، بلاد تجعل من براك اوباما ابن الكيني المسلم وألام المسيحية القمحي اللون أحد أبرز مترشحي الرئاسة عن الديمقراطيين، وتجعله في الوقت نفسه أيضا الوحيد الذي يحظى بحراسة من الجهاز السري في هذه المرحلة المتقدمة من السباق الرآسي ترى من يحكم أميركا؟ أو قل من يمتلكها؟
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1705 - الإثنين 07 مايو 2007م الموافق 19 ربيع الثاني 1428هـ