في مقالين سابقين تحدثت عن النظرة المثالية من المجتمع إلى المتدينين، وفصلت شيئا ما في بعض أسبابها ونتائجها.
بقي أن أشير إلى نظرتين لهما وجودهما ومساحتهما، وإن كانت إحداهما أكثر وأشمل مساحة، فقد كانت النظرة الأولى كما أسلفت هي النظرة المثالية، اما النظرة الثانية فهي نظرة الاتهام والتجريم:
وأتباع هذه النظرة معدودون وقليلون ولا يشكلون أي نسبة تذكر في مجتمعنا المؤمن، وعلى أي تقدير فالانطباع السائد عند هذه الفئة من الناس أن المتدينين يتعاطون مع الناس بالخرافات والغيبيات، والقضايا التي لا تعقل بعقل ولا تدرك بعلم، بغية السيطرة والدكتاتورية ونصب المشانق التي قامت بها الكنيسة في أوروبا لكل متحضر ومتطور ومتعلم يخالفهم في رأي أو اعتقاد أو علم، وقد كتب عن ذلك جورج جرداق في كتابه بين علي والثورة الفرنسية (لقد اعتبرت القرون الوسطى حرية الفكر جريمة تنص القوانين على عقاب صاحبها بمنتهى القسوة، وما محاكم ديوان التفتيش إلا أبشع المنظمات الرسمية التي خلقها هذا القانون، وهي محاكم نظمها وتولى شئونها رجال الدين الذين أولوا أنفسهم حق الدفاع عن المعتقدات الدينية على أسلوب شرس قبيح، فكل من كان يجرؤ على المناقشة في المعتقدات الدينية، ضربت عنقه بعد مقاساة تعذيب طويل) إنهم مجموعة من الدجالين الذين لا يتورعون عن إشباع رغبة أو لذة أو صراع وانتقام، ولكن تحت غطاء ديني، فهم يسرقون وينصبون ويحتالون و و… الخ القائمة السوداء.
وفي فيلم «المصير» وهو فيلم تمويله فرنسي ومخرجه عربي والممثلون فيه مصريون عرب، وتصويره تم في سورية ولبنان - الذي أحيط بهالة دعائية ضخمة، واحتفت به أكثر من عاصمة عربية، يتوزع المسلمون المتدينون على نموذجين، أحدهما منافق وخائن، والثاني إرهابي وسفاك للدماء، والجميع مراوغون ومنافقون تارة، أو مخاصمون للناس ومكفرون للمجتمع تارة أخرى، ولا شغل لهم ولا هدف سوى القفز على السلطة والاستئثار بها. نشرت ذلك صحيفة «الشرق الأوسط» في عددها 6873.
نتيجة هذه النظرة
إن المتدينين أشد عداوة ووحشية من غيرهم، وأن الصراعات الداخلية بينهم هي نتيجة طبيعية للدجل والنفاق والكذب والتقاتل على المصالح والتهالك على الدنيا.
وهذه النظرة بعيدة عن روح المجتمع وفطرته وتصوره تجاه بعضه، بغض النظر عن حال التدين وعدمها، إنه تأويل وتحميل يستبطن الكره والبغض للدين والتدين، وينصب العداء لهما وهذه السوداوية والنظرة القاتمة ربما تكون ناتجة من تصورات ومواقف عدائية كارهة، لذلك لن أطيل الكلام في هذه النظرة بأكثر من هذا.
الثالثة: النظرة الوسطية المتزنة
وهي النظرة المعتدلة التي تَحمِل المتدينين على حقيقتهم، وتفهم جوهرهم، فلا تتطرف ذات اليمين ولا تنحرف ذات الشمال، لا تنظر لهم بإيجابية ملائكية مطلقة ولا بسلبية بغيضة مطلقة، إنها النظرة المتوازنة التي تحسب لكل بعد في حياة الإنسان حسابه، من دون أن تغلّب بعدا على آخر.
ترى هذه النظرة أن المتدين يسعى جادا لمعرفة الحق من الباطل وتميزهما في غالبية الأحيان ولذلك يبعد عن الباطل، ولأنه دائم العبادة والقرب من الله، فإن لله حضورا في قلبه يبعده عن الفواحش، ولأن المساجد ومجالس الصالحين هي أماكنه فإن نفسه تستأنس النور والحق وتستوحش الظلمة والباطل، لكنه مع كل ذلك بشر ونفس وإنسان، لديه شيطان يزين له الهوى، وعنده نفس أمّارة بالسوء، هو في صراع مستمر معها، وهو يتعايش مع رغباته ولذاته وشهواته في صراع دائم وشامل و مفتوح لا ينتهي إلا حين يسترد الله أمانته، وعلى ذلك فالزلة منه واردة والخطأ منه ممكن، والاشتباه غير محال، كما أن له مشاعر وأحاسيس كبقية البشر، فهو يطمح ويأمل ويرجو، ويحب ويكره، ويحب ذاته بقدر معين ما يجعله في موضع الدفاع عنها حين تتعرض لإهانة أو سوء، كما أنه دائم الدعاء لنفسه بأن يختم الله حياته بالخير والسعادة، وهذا في حد ذاته إحساس وحذر طيب من المؤمن، يجعله في حالة يقظة دائمة من الانزلاق والانحراف والتهاون في الدين، أو التطاول على الخلق. طبقا لهذه النظرة تكون الصراعات الاجتماعية بين المتدين وأخيه المتدين ممكنة غير محالة، لما يعتري النفس من هواجس وأحاسيس وتطلعات، ولما يحصل لدى العقل من اشتباهات وتفسيرات خاطئة.
كما أن لهذه النظرة فوائد كثيرة أبرزها:
* أن الأخطاء تحسب بقدرها، فلا يعني الخطأ أو الاشتباه خروج الإنسان عن الملة، بل هو زلل وغلط حصل في زاوية ما دون أن يعم على حياة المتدين كلها.
* إن الحكم لا يعمم على جماعات المتدينين، ولا يُشمّل إلى القاصي والداني منهم بل يبقى منحصرا بمن ارتكبه.
* بهذه النظرة يمكن الفصل بين الدين ومواقف المتدينين، فتصرفات المتدينين ليست كلها دينا، وآراؤهم ليست قرآنا، وفهمهم ليس كله شرعا.
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 1704 - الأحد 06 مايو 2007م الموافق 18 ربيع الثاني 1428هـ