العدد 2256 - السبت 08 نوفمبر 2008م الموافق 09 ذي القعدة 1429هـ

ملفات بوش تغرق إدارة أوباما بالفوضى

ملفات كثيرة تنتظر الرئيس المنتخب باراك حسين أوباما قبل دخوله البيت الأبيض. فالمعركة بدأت والفوز بالرئاسة خطوة أولى في طريق طويل فيه مطبات هوائية قد تهدد الاحتمالات وتعطل التوقعات.

هناك الكثير من المهمات العاجلة تتطلب من الرئيس المنتخب معالجتها أو تجميدها أو تأجيلها أو تصحيحها. فالتركة ثقيلة وخصوصا أنها جاءت في فترة مضطربة شهدت خلالها الأسواق المالية حركة انهيارات غير مسبوقة في التاريخ. كذلك ظهرت على ضفافها سياسات دولية تعترض على الأسلوب الأميركي وتفرده في اتخاذ قرارات بمعزل عن العالم وضد مصالح الدول الكبرى.

تصحيح السياسة الدولية يعتبر الآن مهمة عاجلة تضغط على الرئيس المنتخب لإيجاد مخارج متوازنة لها لا تفرط بالمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة ولا تستفز الاتحاد الأوروبي أو روسيا الاتحادية ودول العالم الثالث. والتصحيح يبدأ بالعودة إلى مفهوم الشراكة الدولية والتفاهم مع الدول الكبرى على صوغ استراتيجية تحترم توازن المصالح وتؤسس قواعد عمل تضمن عدم انهيار علاقات الثقة بين واشنطن وغيرها من العواصم الأوروبية والآسيوية والعربية.

إلى السياسة الدولية تظهر في الميدان القومي الأميركي مجموعة ملفات قديمة وطارئة. فالقديم من الملفات يتطلب إعادة نظر بتلك النزعة العرقية التي صبغت التمييز بين المجموعات الأهلية بالألوان. الناخب الأميركي الذي أعطى صوته للشاب الأسمر ينتظر منه الكثير لتصحيح التوازن الداخلي وإعادة تأسيس النموذج الديمقراطي على قواعد ليست بالضرورة أن تكون متكيفة مع السابق. الناخب يتوقع التجديد وإلغاء ملف التمييز العنصري الذي شكل على امتداد زمني ثغرة في البناء الداخلي للدولة. وهذا الأمر يتطلب من الرئيس المنتخب إعادة دراسة نظام الضرائب والتوظيف حتى يتكيف مع تلك المتغيرات السكانية (اللونية) التي طرأت على البنية الديموغرافية وتشكيلاتها العرقية والأقوامية والدينية.

القديم من الملفات لا يمكن عزله عن الجديد وتحديدا تلك النقاط الطارئة التي دخلت سوق التنافس في السنوات الأخيرة. فالإدارة الحالية (جورج بوش) أهملت الإصلاحات الداخلية وتجاهلت الكثير من المتطلبات الحياتية ووظفت الرساميل لتحديث قطاع الإنتاج العسكري وعطلت ضمانات صحية وتربوية واجتماعية مطلوبة من الطبقات الوسطى لتأمين الاستقرار والرفاهية. وسياسة إعادة تدوير الاستثمارات المالية في القطاعات المدنية تعتبر من التحديات الكبرى التي ستواجه الرئيس المنتخب.

معارك داخلية

هناك معارك كثيرة سيضطر اوباما الى التعامل معها بحذر لكونها تمس مصالح لوبيات وكارتيلات اعتمدت على استراتيجية بوش الدولية لتطوير أجهزتها وتوسيع قاعدتها الاقتصادية. مؤسسات التصنيع الحربي مثلا حققت أرباحا مذهلة بسبب اعتماد بوش استراتيجية عسكرية هجومية في التعامل مع الملفات الدولية. وتعتبر مهمة خفض موازنة الدفاع التي تضخمت مرضيا في عهد بوش من الأمور الحساسة لأنها تشكل قاعدة التصنيع والقاطرة التي تقود الاقتصاد الأميركي على سكة الحديد. وموازنة الدفاع المتضخمة لا يمكن فصلها عن موازنات الحروب التي أقرها الكونغرس لتغطية نفقات الجيش العامل في العراق وأفغانستان.

المهمات صعبة وهي تشتمل على ملفات باردة وساخنة. وكل ملف يتضمن عشرات الأوراق والاقتراحات. ومجموع الملفات يضع الرئيس المنتخب أمام سؤال بسيط وهو: ما هي الأولويات؟ ونظام الأولويات يرتب جدول أعمال الإدارة المقبلة ويحدد أجوبتها النظرية وأسلوب تعاملها الميداني مع نقاط حساسة وملتهبة أو قابلة للاشتعال.

أهم النقاط المطروحة على جدول مهمات أوباما القديمة والطارئة تبدأ من الإجابة عن سؤال «كيف سيتعاطى مع تلك الملفات التي سيتركها له بوش بعد مغادرته البيت الأبيض».

إدارة بوش خربت علاقات الولايات المتحدة الدولية مع أوروبا وروسيا، وهي شوهت سمعة أميركا وبهدلت نموذجها وحولته إلى مثال يستدعي السخرية من الشعوب والدول. وإدارة بوش ورطت الولايات المتحدة وأغرقتها في معارك طويلة وفوضى بالملفات ومهمات وهمية تتطلب عشرات السنوات لإنجازها.

هناك ملف العراق والأسلوب الأفضل لإقفاله. وهناك ملف أفغانستان والطريق الصحيح المطلوب اتباعه لاحتواء عناصره الكامنة والمتفجرة. وهناك ملف فلسطين الذي طال انتظاره من دون جدوى. وهناك ملف الطاقة وعلاقات واشنطن مع دول الخليج. وهناك ملف العلاقات الدبلوماسية مع المحيط العربي وقنوات التفاوض مع دول المنطقة ودورها الإقليمي. وهناك ملفات طارئة وحامية تتصل برؤية اوباما الاستراتيجية واتصالها بمفاهيم أو مشروعات مختلقة تضغط باتجاه إعادة النظر بالخرائط السياسية لدول «الشرق الأوسط الكبير» من باكستان إلى السودان والصومال.

ملفات كثيرة تركها بوش ومعظمها اعتمد على فرضيات أيديولوجية ويمكن إهمالها أو الاستغناء عنها من دون حاجة حتى لتعديل موازنات الدفاع والحروب. مثلا ملف تغيير ثقافة المنطقة العربية لا معنى له لأنه مكلف ولن يعطي نتيجة سياسية وربما ساهم في حال استمر الضغط في إطاره في توليد أحقاد ترفع من درجات الكراهية لسياسة الولايات المتحدة. وأيضا ملف تعديل خرائط الدول العربية الذي يتبناه نظريا جوبايدن (نائب الرئيس) يمكن إسقاطه من الاستراتيجية الأميركية لأنه يتضمن في النهاية دعوات لاستمرار الحروب والانزلاق نحو المزيد من معارك التقويض التي لن تثمر سوى المزيد من الدويلات القبلية والطائفية والمذهبية المعطوفة على مزيد من حركات العنف وتوسع شبكات الإرهاب. كذلك يمكن غض النظر عن سياسة «الإصلاح من فوق» واستخدام القوة لتعديل الأبنية الثقافية والاقتصادية في اعتبار أن هذه المسألة تتصل بالتاريخ والتطور الاجتماعي وتحتاج إلى فترات زمنية للتوصل إليها... وأي رغبة تقضي باختصار الوقت ستدفع العلاقات الأهلية إلى الانهيار وستجرجر شعوب المنطقة إلى حروب داخلية طائفية ومذهبية كما حصل في العراق.

الطريق الأسهل

الطريق الأسهل لتصحيح صورة أميركا في العالم تبدأ بالإقلاع عن استراتيجية بوش الهجومية ومغادرة تلك السياسة التي سهلت مهمات شبكات الإرهاب وفتحت الأبواب لعدم الاستقرار والفوضى وأضعفت إمكانات التقدم والإصلاح.

لا يمكن من الآن اكتشاف خطط اوباما ورؤيته للعالم. فهو يحتاج إلى فترة زمنية لبلورة سياسة التعامل مع الملفات الخارجية. وكل ما صدر عنه من تصريحات ومواقف جاءت عرضية وبسرعة في خطاباته الانتخابية التي تتضمن عادة الكثير من الوعود والأفكار العامة. وخطابات التنافس الانتخابي ليست سياسة لأنها تعتمد على شعارات موجهة إلى الجمهور والشارع لكسب الأصوات وجذب الناس إلى صناديق الاقتراع. السياسة تبدأ عادة بعد فرز الأصوات وإعلان النتائج لأنها تقوم على مسئولية إدارة الأزمات والتعامل بواقعية مع الملفات. إلا أن الخطوط العامة لتوجهات الرئيس المنتخب ترسم خطوات مخالفة لاستراتيجية بوش وخصوصا تلك المتصلة بالسياسة الاقتصادية الداخلية. فالتوجه إلى الداخل الأميركي يشكل نقطة قوية وواضحة في برنامج أوباما الاقتصادي وتحديدا تلك المتعلقة بالضرائب على الأغنياء وأصحاب الدخل المرتفع وإعادة توظيف الرساميل المجمعة لتحديث البنية التحتية (طرقات، أنفاق، سكك حديد، تجمعات سكنية) وإصلاح الضمانات التربوية والصحية وتوسيع قاعدة إنتاج الصناعات المدنية.

المشكلة في توجهات أوباما الخارجية إنها تبدو غامضة على رغم وضوح اختلافها عن استراتيجية بوش. فالرئيس المنتخب عارض الحرب على العراق من البداية وطالب بتسريع وتيرة انسحاب جيش الاحتلال الأميركي ضمن مهلة زمنية تمتد 16 شهرا تبدأ من تسلمه مقاليد الحكم في 20 يناير/ كانون الثاني 2009. فهل يستطيع اوباما تنفيذ وعده من دون عقبات وعثرات؟ هذه هو السؤال.

الملف الأفغاني يحتمل مخاطر كثيرة في حال واصل اوباما السير في حقل ألغامه. وجهة الرئيس المنتخب ليست مريحة في هذا الإطار لأنه يعتمد فكرة الهجوم وتعزيز القوات الأميركية ونقلها من العراق بداعي مطاردة الإرهاب وملاحقة شبكات «القاعدة» و»طالبان» داخل الحدود الباكستانية. وهذا يعني عمليا توسيع دائرة الحرب واحتمال انزلاق واشنطن إلى مواجهة إقليمية قد تقوض دولة باكستان وتدفع علاقاتها الأهلية إلى صدامات دموية لن تكون دول الجوار بعيدة عن تداعياتها بسبب ذاك التداخل السكاني (القبلي) على الحدود الإيرانية - الأفغانية - الباكستانية.

إقفال ملف أفغانستان يبدأ بالإقلاع عن سياسة توسيع الحروب واستراتيجية تقويض الدول وهذا الاحتمال لا يتم من دون فتح قنوات التفاوض والحوار مع «طالبان» لكونها تشكل قوة تنظيمية سياسية تعبر عن مصالح قبيلة البشتون (50 مليون نسمة) المنتشرة على طول خطوط الحدود مع باكستان. فالحوار مع «طالبان» هو الأسلوب المفضل في حال قرر اوباما السير في خطى مخالفة لسلفه بوش. فهذا الجانب يتكفل في تطويق «الإرهاب» وضمان الاستقرار الأفغاني وجواره الإقليمي ويجنب دولة باكستان كارثة أهلية قد تؤدي إلى تقويضها وانهيارها وانشطارها إلى دويلات ثلاث كما حصل في بلاد الرافدين.

إيران والخليج

الملف الإيراني في رؤية اوباما غير واضح لكونه يتضمن مجموعة إشارات تتراوح بين القبول بمبدأ التفاوض مع طهران بشأن البرنامج النووي وطلب مساعدتها على احتواء العنف في العراق وبين رفض مشروع مواصلة التخصيب والضغط على القيادة السياسية للإقلاع عن إطلاق تصريحات «ايديولوجية» تهدد وتستفز دول المنطقة. غموض موقف اوباما بهذا الشأن يفتح الكثير من الأوراق في ملف الطاقة وامتداداته (السعر، التنقيب، الإنتاج، التكرير، خطوط النقل) وعلاقة واشنطن مع الدول المنتجة للنفط. فهل يتجه الرئيس المنتخب إلى التصعيد مع دول الخليج العربية بداعي الضغط عليها من خلال فتح قنوات الاتصال مع طهران أم يحاول ضبط توازن القوة معتمدا على سياسة الحوار مع كل دول الجوار المحيطة بالعراق؟ الجواب يعطي فكرة موجزة عن خطط إدارة اوباما في الفترة المقبلة.

إذا طورت واشنطن الاتصالات «الفنية» واللقاءات «التقنية» التي تعقدها الآن من تحت الطاولة مع طهران إلى حوارات سياسية ثنائية لا تشترك بها دول الخليج العربية وتلك المجاورة للعراق فمعنى ذلك أن الإدارة الجديدة لا تريد الاستقرار في المنطقة وهي تدفع باتجاه تأسيس معسكرات إقليمية بقصد توسيع دائرة «الفوضى الهدامة». أما إذا اتجهت واشنطن إلى فتح طاولة الحوار على مختلف دول الجوار ولم تعتمد سياسة عزل أطراف عن أخرى وتجاوزت خطوط الاتصالات «الثنائية» السرية أو العلنية فمعنى ذلك أن الرئيس المنتخب قرر الإقلاع عن استراتيجية التقويض واللعب بالنيران الطائفية والمذهبية والقبلية.

فلسطين

سياسة التعامل مع الملفات الحامية مهمة وخطيرة لأن حلقات السلسلة متصلة من باكستان وأفغانستان وإيران إلى العراق ولبنان وفلسطين. والمسألة الأخيرة هي المهمة في المشروع العربي لأنها تتصل بالمبادرة السلمية وعدم قبول «إسرائيل» بدعم من إدارة بوش بها.

الموضوع الفلسطيني كان ولايزال يشكل جوهر الصراع في المنطقة وبسببه اندفعت الشعوب العربية إلى معارضة السياسة الأميركية ومخالفة نموذجها على رغم كل الحروب والاعتداءات. وهذا الموضوع الذي وصل إلى طريق مسدود باعتراف بوش لابد من إعادة قراءة أوراقه وفق ما نصت عليه القرارات الدولية المتوافقة في بنودها مع المبادرة العربية وليس وفق وجهة نظر تل أبيب ومصالح الحزب الديمقراطي الانتخابية.

المسألة الفلسطينية مفتاح قضايا المنطقة العربية الأخرى وما تعنيه من امتدادات جغرافية وجوارية وحضارية ودينية ممتدة إلى عمق العالم الإسلامي في جانبيه الآسيوي والأفريقي. والمفتاح الفلسطيني عربي الهوية ويحتاج إلى تطوير الحوار مع الدول العربية للتصالح على الملف والبدء في تحسين السلوك الأميركي في موضوع إنساني وسياسي يحتاج إلى قرار دولي لضبطه تحت سقف مشروع عادل يضمن مصالح الأطراف. وهذا الحل الدولي - العربي للمسألة الفلسطينية يساعد اوباما كثيرا على احتواء مختلف الملفات من أفغانستان والعراق إلى لبنان والسودان، كذلك يحد من دورة العنف ويوقف انتشار الفوضى وتوسع شبكات الإرهاب.

ملفات كثيرة تنتظر الرئيس المنتخب قبل تسلمه مفاتيح البيت الأبيض. فالمعركة الحقيقية لم تبدأ بعد ويرجح أن تأخذ بعض الوقت لترسيم صورة واضحة عن استراتيجية جديدة تتعامل بموضوعية مع ملفات قديمة أو طارئة ولكنها في النهاية كلها متداخلة وتؤثر سلبا وإيجابا على بعضها. حتى تلك النقاط التي تعتبر أميركية في الداخل لا يمكن عزلها عن العالم سواء في الموضوع الفلسطيني وسياقاته العربية والإقليمية وسواء في موضوع النفط وأسعاره وتأثيره على نمو الاقتصاد الأميركي.

كل هذا الكم من الموروثات والمستجدات ينتظر اوباما وهو في مجموعه ملفات لا يمكن معالجتها أوحلها في ولاية واحدة أو في سنوات محدودة... إلا أن الطموح الذي لا يتجاوز حدود التوقعات لابد أن يقبل بالواقع الموضوعي والحد الأدنى من العدالة وهذا يتطلب مغادرة أوباما سياسة بوش والإقلاع عن مغامراته الطائشة.

مجرد إقفال الملفات المفتعلة والمختلقة يخفف الخسائر ويفتح الأبواب لاحتواء أزمات مشتركة تتشارك في أسبابها ونتائجها مصالح كل الشعوب

العدد 2256 - السبت 08 نوفمبر 2008م الموافق 09 ذي القعدة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً