العدد 1703 - السبت 05 مايو 2007م الموافق 17 ربيع الثاني 1428هـ

المحطات التأسيسية

المشروع القومي العربي في بداياته

هناك صعوبة في تحديد لحظة زمنية للبدايات الأولى ولكن يمكن وصف مجرى الحوادث السياسية التي أودت بالمشروع العربي إلى الفشل في مطلع القرن الماضي. بدايات التفكير القومي المعاصر تعود إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر حين تشكلت الأفكار في سياق دعوات للإصلاح والتقدم فتألفت الجمعيات السياسية والأدبية، وصدرت المناشير والصحف والمجلات في بيروت والقاهرة، وأخذت بعض الكتابات تدعو إلى دولة دستورية ولا مركزية.

من هذه البدايات تكونت اجتهادات سياسية أخذت تتطور من الإرشادات والنصائح الأدبية والانفعالية والعاطفية إلى نوع من المشروعات التي حاولت الانتقال بالفكرة من النظرية إلى التطبيق. في المقابل حاولت السلطنة العثمانية إصلاح ولايات المنطقة العربية باستخدام مشروعات عمرانية وتربوية وإدارية ودستورية إلا إنها اصطدمت بعقبات دولية حاولت فرض شروطها على السلطان عبدالحميد الثاني فاضطر إلى تعليق العمل بالدستور العثماني وحل البرلمان (مجلس المبعوثان).

هذه الخطوة الارتدادية ولدت ردود فعل تركية وعربية. ففي اسطنبول نشطت حركات سرية (جمعيات وأندية) ذات نزعة قومية تطالب بالإصلاح والعودة إلى الدستور وتأسيس دولة تركية. وفي بيروت ودمشق وحلب وطرابلس والقاهرة نشطت جمعيات وأندية ذات نزعة عربية تطالب أيضا بالإصلاح والعودة إلى الدستور ولكنها كانت ترفض سياسة التتريك أو تأسيس دولة قومية تركية تغير الهوية العربية وتهمش اللغة العربية.

الحركة الإصلاحية العثمانية إذا بدأت متناقضة بين الكتلتين التركية والعربية. فالحركة كانت متوافقة على عودة الدستور ومتخالفة على هوية الدولة القومية. كذلك كانت متوافقة على الانتخابات ولكنها كانت متخالفة على نسبة التمثيل العربي - التركي في البرلمان وطبيعة دستور الدولة. فالجانب التركي (الإصلاحيون العلمانيون) كان متشددا في تغليب الهوية القومية ورفع نسبة التمثيل السياسي التركي ورفض اللامركزية. والجانب العربي (الإصلاحيون) كان أقل علمانية ويميل إلى إصلاح السلطنة وتعديل نسبة التمثيل السياسي ورفض المركزية مع ميل إلى إعطاء الولايات العربية (المشرقية) بعض الصلاحيات الإدارية.

هذا التعارض استفاد منه السلطان عبدالحميد فأخذ يتشدد بطرح فكرة «الجامعة الإسلامية» لكونها تشكل ذاك الإطار التاريخي التوحيدي لكل المسلمين. كذلك بدأ ينفتح على النخبة العربية ويكثر من تمثيلها والاعتماد عليها في الوزارات والهيئات الاستشارية. وألحق السلطان سياسته الإسلامية المنفتحة على مختلف الأقوام بسلسلة مشروعات تحديثية اعتمد في تمويلها على التبرعات المالية من المسلمين. وأبرز تلك المشروعات كانت دعوته إلى إنشاء سكة حديد الحجاز إذ أراد منها جمع كلمة المسلمين وتسهيل فريضة الحج السنوية.

ظل هذا التجاذب العربي - التركي يتحرك تحت مظلة السلطنة إلى أن نجحت جمعية «الاتحاد والترقي» في ترتيب انقلاب على السلطان في سنة 1908 وهي السنة التي أعلن فيها الانتهاء من إنجاز خط سكة الحجاز.

أدى الانقلاب إلى عودة الدستور وسط ترحيب العرب والأتراك بهذا الإنجاز. فجرت الانتخابات واكتشف العرب أن نسبة التمثيل السياسي تراجعت وبدأت جمعية الاتحاد والترقي في تطبيق سياسة التتريك وخصوصا بعد أن قررت خلع السلطان في العام 1909.

شكل الانقلاب فرحة ثم صدمة عند الجالية العربية حين وجدت نفسها تواجه سياسة عصبية عنصرية لا تتوافق مع مبادئ الإسلام وشخصية السلطنة التاريخية والهوية الجامعة التي تربط التركي بالعربي. وهكذا أخذت النخبة العربية تفكر في البدائل في محاولة منها للدفاع عن هويتها ولغتها ومصالحها ونسبة تمثيلها وموقعها ودورها في تقرير سياسة السلطنة.

حتى الآن كانت أفكار الانفصال والاستقلال وتأسيس دولة قومية عربية خالصة غامضة وغير واضحة في خطوطها العامة وآلياتها وتفصيلاتها. فالأفكار كانت موجودة ولكنها متناثرة على أكثر من اجتهاد ومحور. كانت هناك كتابات عامة للشدياق والبستاني والتونسي والكواكبي وبعض الإرهاصات القومية التي أوردها نجيب عازوري في كتابه «يقظة الأمة العربية» الذي صدر في باريس خلال إقامته في العاصمة الفرنسية بين 1904 و1906. العازوري آنذاك أنشأ مؤسسة سياسية أطلق عليها «جامعة الوطن العربي» ثم ألف كتابه المذكور في العام 1905 ودعا فيه بوضوح إلى انفصال العرب عن الترك وإنشاء دولة تضم الجزيرة العربية والهلال الخصيب (مشروع المستطيل العربي).

كتابات العازوري تعتبر بدائية ولكنها شكلت مادة للتفكير في بناء مشروع عربي بديل عن «العثمانية» أو عن سياسة «التتريك» القومية التي اعتمدتها جمعية الاتحاد والترقي بعد خلعها للسلطان.

أدت سياسة التتريك إلى تشكيل ردة فعل عربية (مشرقية تحديدا) عبرت عن نفسها بالخوف على الهوية واللغة ودعت إلى تأسيس مشروع قومي خاص بالعرب. إلا أن مشكلة المشروع كانت عدم الاتفاق على دين الدولة وعلاقة الدولة بالإسلام. فتشكلت في ضوء الاختلاف على الإسلام تيارات سياسية قومية خالصة مقابل اتجاهات جمعت بين الهوية القومية ودين الدولة.

الجمعيات الأربع

ضمن هذه الفضاءات الأيديولوجية المتوترة تأسست ردا على سياسة التتريك أربع هيئات عربية ستلعب دورها لاحقا في رسم مستقبل المشرق العربي بعد انهيار السلطنة. في اسطنبول تأسس «المنتدى العربي» في العام 1910 برئاسة عبدالكريم الخليل بهدف إحياء الروح القومية وسط الجالية العربية. بعدها توسعت الفكرة وأخذت بفتح فروع للمنتدى في المدن العربية وانضم إلى عضويته الآلاف. وحدد المنتدى أركان القومية العربية باللغة والتاريخ والأرض والمصلحة.

كانت فكرة المنتدى العربية غير ناضجة فهي تراوحت بين حق الاختلاف والدفاع عن الهوية وحمايتها من سياسة التتريك وبين تأسيس موقع مستقل للعرب يأخذ في الاعتبار مكانتهم التقليدية وشرعيتهم التاريخية. فالطموح نحو إنشاء دولة لم يكن تبلور بعد. وكل ما في الأمر كان محاولة من النخبة العربية لتحسين شروط التفاوض وتأمين دور خاص تحت سقف دولة «عثمانية» مشتركة.

الجمعية الثانية «العربية الفتاة» تأسست في باريس في العام 1911 ردا على جمعية «تركيا الفتاة». قاد الجمعية في بدايات التأسيس رستم حيدر وأحمد قدري وعوني عبدالهادي وطرحت شعارات عامة من نوع «تحرير الأمة العربية بكل الوسائل الشرعية وغير الشرعية»، وضمت إلى صفوفها مجموعات سورية وفلسطينية وأردنية ولبنانية. فالجمعية كانت «مشرقية» في تكوينها وتفكيرها ولم تنجح في توضيح المقصود من جغرافية «الأمة العربية» وحدود الدولة الطبيعية أو السياسية وكذلك تلك «الوسائل» التي هددت باستخدامها بهدف «التحرير». هذا الغموض الأيديولوجي انعكس على التفكير السياسي وعطل على الجمعية تطوير برنامجها وتوضيحه حتى حين انتقلت إلى بيروت في 1913 واتخذت من تلك المدينة العربية مركزا لنشاطها.

الجمعية الثالثة تأسست في القاهرة في العام 1912 برعاية مجموعة من المثقفين السوريين (النخبة الشامية) لجأت إلى مصر هربا من التجنيد أو المطاردة أو بسبب نظام الحماية البريطاني الذي خيم هناك بتوافق مع الأسرة الحاكمة. أطلقت المجموعة على التنظيم تسمية كانت غريبة من نوعها في تلك الفترة وطرحت مبادئ عامة تأثرت بالتجربة الأميركية ودستور الولايات (الفيدراليات). فالجمعية أو حزب «اللامركزية الإدارية العثماني» طالب في منشوره منح كل ولاية عثمانية قسطا من الاستقلال الإداري، واقترح أن تعتمد الدولة المركزية على لغتين (تركية وعربية) في أوراقها الرسمية. الواضح من أفكار هذا الحزب أنه كان ضد الانفصال أو التقسيم (الكونفديرالية) ويميل إلى المحافظة على السلطنة العثمانية ضمن تعديلات إدارية تعتمد ثنائية اللغة والتمثيل السياسي والمساواة بين الولايات في إطار دستوري فيدرالي. والدعوة التي أطلقها الحزب بتبني «اللامركزية» والولايات العربية تعكس بدايات مبكرة تأثرت أو استلهمت النموذج الفيدرالي الأميركي (نظام الولايات).

الجمعية الرابعة كانت الأهم وغريبة من نوعها آنذاك. فهي كانت سرية ومنضبطة عسكريا في اعتبار أن مؤسسها في اسطنبول في العام 1913 هو البكباشي عزيز علي المصري. كانت جمعية «العهد» عسكرية الطابع وليست مدنية وضمت في صفوفها 315 ضابطا عربيا في «الجيش العثماني» معظمهم من السوريين (الشوام) والعراقيين. وطرحت فكرة سياسية كانت متداولة سابقا وتنص على «الاستقلال الداخلي للأقطار العربية ضمن السلطنة العثمانية».

أهمية جمعية «العهد» أنها تعتبر الأولى عسكريا من نوعها. وبسبب هذا التميز سيلعب ضباطها دورا في الفترة اللاحقة نظرا إلى الخبرة التي يملكونها في المجال الحربي وتنظيم المتطوعين وتدريبهم على القتال. ومثل هذه النواة العسكرية ستتحول إلى نموذج في التخطيط للانقلابات وقيادة العصيان وتعطيل الحياة السياسية.

هذه التنظيمات السياسية الأربعة المدنية والعسكرية تأسست بين اسطنبول (مركز السلطنة) وباريس (ملجأ النخبة العربية) وبيروت (المدينة التي تتمتع بهامش من الحياة) والقاهرة (واحة عربية تحت ظلال الانتداب البريطاني) في فترة دقيقة للغاية مرت بها السلطنة والمنطقة بين العامين 1910 و1913.

في تلك المرحلة بدأت جمعية «الاتحاد والترقي» بتهميش دور النخبة العربية فأخذت باستبعاد المستشارين العرب وتطويق كتلة النواب في البرلمان ومنعها من التحرك من دون العودة إلى المراجع التركية. وشكل هذا التمييز الأقوامي حساسية عربية فشهدت بعض المناطق بدايات انتفاضات ضد سياسة التتريك في العام 1910 من دون أن تعطي فكرة واضحة عن الأهداف البعيدة عنها. حتى ذاك الوقت لم يكن مشروع الانفصال أو الاستقلال عن السلطنة قد ارتسمت خطوطه. وكانت معظم التجاذبات التركية - العربية تحصل في إطار الحرص على الدولة وعدم التفريط بها.

استمر هذا التوتر إلى أن أقدمت ايطاليا على غزو طرابلس الغرب (ليبيا) في 1911. عملية الغزو شكلت مادة حية لرفع نسبة التجاذب. فالمجموعات العربية اتهمت «الاتحاد والترقي» بالضعف والإهمال وعدم الاستعداد لحماية الثغور الإسلامية بينما اعتبرت المجموعات التركية عملية الغزو محاولة أوروبية لاستفزازها وفضحها. وفي الواقع كشفت عملية الاحتلال الإيطالي ضعف رجال «الاتحاد والترقي» في أول امتحان جدي. فليبيا آنذاك كان الموقع الأخير للسلطنة في تلك المنطقة الاستراتيجية. فهي خسرت المغرب والجزائر وتونس لمصلحة فرنسا وخسرت مصر والسودان لمصلحة بريطانيا والآن فقدت موقعها في ليبيا لمصلحة إيطاليا.

المجموعات العربية في البرلمان العثماني (مجلس المبعوثان) اعتبرت أن الدفاع عن ليبيا (طرابلس وبرقة) نقطة لا تهاون فيها وأن على الدولة المركزية العمل على استعادتها وتحريرها مهما كلف الأمر. وخاف رجال «الاتحاد والترقي» من المسألة وقرروا إرسال قوات تركية - عربية لاسترداد ليبيا وأصيبت المحاولة بالفشل.

خسارة ليبيا ساهمت في تفجير الثقة فاندفعت المجموعات العربية إلى اتهام «الاتحاد والترقي» بالإهمال والمساومة والضعف وعدم الاهتمام بالدفاع عن المواقع العربية والثغور الإسلامية. وردت جمعية الاتحاد على الاحتجاج العربي بخطوتين خطيرتين في العام 1912، الأولى وقعت معاهدة صلح مع إيطاليا اعترفت فيها بالاحتلال. والثانية حلت البرلمان (مجلس المبعوثان) ودعت إلى انتخابات سريعة زورت فيها النتائج لمصلحة «الاتحاد والترقي» الذي فاز بغالبية كاسحة للمقاعد.

يعتبر العام 1912 بداية نهاية العلاقة التاريخية السياسية بين العرب والترك. ففي هذه السنة حصلت انتفاضات بلقانية بدعم وتشجيع من أوروبا ضد العثمانيين انتهت بخسارة السلطنة معظم أراضيها في شرق القارة إذ اضطرت إلى التخلي عن ست ولايات فيها دفعة واحدة.

أدى الانكماش في شرق أوروبا وخسارة ليبيا وتزوير الانتخابات واستمرار الكيدية إلى تعزيز سياسة الإمعان في التتريك وتهميش العرب... وكل هذا ساهم بأساليب عفوية أو منظمة في انتقال الفكر «القومي» من طور اللامركزية والإصلاح الإداري إلى طور الدعوة إلى الاستقلال والانفصال.

فكرة الاستقلال والانفصال استمرت غامضة، فهي من جهة شكلت ردة فعل على التهميش والاستعلاء والإهمال ومن جهة أخرى تأثرت سياسيا بالانتفاضات البلقانية ضد العثمانيين وظهور دعوات أوروبية تنادي بالقومية والاستقلال الوطني، ولكنها لم تتطور إلى بلورة واضحة في البرنامج العربي وآلياته. وهذا الإرباك يمكن ملاحظته من مقررات وتوصيات «المؤتمر العربي الأول» الذي عقد في باريس في العام 1913.

المؤتمر العربي الأول وتداعياته

الدعوة التي وجهت لعقد المؤتمر العربي لم تصدر عن فراغ. فالأمة آنذاك وصلت إلى حال من الانهيار والفوضى ولم يعد بالإمكان صد الهجمات عليها من دون العمل على تأسيس هيكلية قادرة على الممانعة والتصدي لكل تلك الضربات المتلاحقة التي تصاعدت حدتها منذ نهاية القرن التاسع عشر. ففي تلك الفترة ارتكبت فرنسا مجزرة رهيبة في الجزائر وتقدمت منها واحتلت تونس في العام 1881. بريطانيا أيضا قررت محاصرة مصر واحتلالها بذريعة الرد على ثورة أحمد عرابي فاستولت عليها بالتحالف مع الخديوي توفيق في العام 1882 وأخذت بمحاصرة انتفاضة الشعب المصري إلى أن قضت عليها في العام 1883.

ضمن هذه الأجواء الدولية التي فرضت متغيرات إقليمية في العلاقة بين مصر والسودان هبت ثورة بقيادة المهدي انتهت بخروج الجيش المصري من الخرطوم في العام 1885 واستمرت الثورة المهدية بالنمو والصعود إلى أن قررت بريطانيا القضاء عليها فاحتلت السودان في العام 1898. في هذه الفترة كانت السلطنة خسرت آسيا الوسطى حين استطاعت روسيا القيصرية الاستيلاء عليها في العام 1890. بعدها فرضت بريطانيا وصايتها على مسقط والبحرين في 1892، والكويت في 1899.

الأهم من كل ذلك كان تشكل الحركة الصهيونية في أوروبا وبدء ظهور خطرها على المنطقة وتحديدا المشرق العربي. فالصهيونية استفادت من ضعف السلطنة وانهيارها فاستظلت الهجوم الأوروبي (الفرنسي - البريطاني) وأعلنت عن عقد مؤتمرها الأول في بازل (سويسرا) في العام 1897 وكشفت عن مشروع تأسيس دولة لليهود.

الهجوم الأوروبي على العالم العربي - الإسلامي شكل فرصة للحركة الصهيونية للتقدم باتجاه المشرق العربي. ففي وقت كانت فرنسا تحتل موريتانيا في 1903 وتوقع معاهدة انتداب على المغرب العربي في العام 1906 كانت بريطانيا في مصر والسودان تستكمل سيطرتها على وادي النيل وقناة السويس. وأدى هذا التوغل الاستعماري الفرنسي - البريطاني في المغرب ومصر إلى إنتاج حركتين متناقضتين الأولى وطنية مصرية حين قرر صاحب صحيفة «اللواء» مصطفى كامل تأسيس الحزب الوطني في 1907 لمقاومة النفوذ البريطاني. والثانية استعمارية استيطانية حين خرجت الصهيونية من سريتها وكشفت مشروعها وأعلنت عن تأسيس حي تل أبيب بالقرب من يافا في 1910.

آنذاك لم تدرك النخبة العربية مخاطر المشروع الصهيوني على المنطقة. وحتى ذاك الوقت اكتفت بعض الأدبيات في التنبيه من المشروع ولفت نظر الناس إلى خطورة فكرة بناء دولة في فلسطين. وهذا النقص في وعي مخططات المشروع ساهم في تأخير الرد وتأجيله إلى فترة العشرينات.

في هذا الجو المتأزم على كل الجبهات دعت النخبة العربية المشرقية إلى عقد المؤتمر العربي في باريس في العام 1913. آنذاك كانت العلاقات بين الكتلة العربية (الشامية) والكتلة التركية القومية العسكرية (جمعية الاتحاد والترقي) وصلت إلى طريق شبه مسدود. فالهيئة الحاكمة في اسطنبول بالغت في سياسة تهميش المجموعة العربية وتنكرت لفكرة الإصلاح الإداري واتجهت نحو إحكام سيطرتها على مواقع الدولة من دون انتباه لأصوات المعارضة وحركات الاحتجاج.

هذا جانب من الصورة. الجانب الآخر تمثل في استمرار تفكك السلطنة وانهيارها على الجبهات العسكرية في مواجهة روسيا وفرنسا وبريطانيا. وساهم التراجع في تسعير حدة الخلافات الداخلية التي دفعت العلاقات العربية - التركية نحو المزيد من التقوض.

الفارق الزمني بين المؤتمر الصهيوني الأول في سويسرا والمؤتمر العربي الأول في فرنسا 16 سنة فقط. إلا أن الفارق الأهم كان في اختلاف الوعي والإمكانات والرؤية والآليات التي تخطط وتبرمج الفكرة وتنقلها من النظرية إلى التنفيذ. الحركة الصهيونية كانت واضحة الأهداف منذ البداية وتملك من الطاقات والعلاقات والاتصالات ما يكفي لتوظيف كل المتغيرات من أجل تحقيق الغاية وتأمين كل الشروط المطلوبة لنجاحها. في المقابل كانت الحركة العربية سيئة التنظيم وغير واضحة في رؤيتها وأهدافها ولا تعرف ماذا تريد. وإذا توافقت على هدف معين كانت لا تملك الوسائل والإمكانات والشروط الكفيلة بتأمين النجاح ونقل الفكرة من الكلام إلى الواقع.

الفارق بين الحركتين يمكن تقديره من بدايات التأسيس. فالصهيونية وضعت الخطط والبرامج وحددت جداول زمنية وخصصت موازنات. بينما الحركة العربية كانت تجتمع وتضع المقررات وتكتفي بالخطابات الحماسية والمطالبات العامة من دون تفكير بالجدول الزمني واليات التطبيق. وهذا بالضبط ما حصل في المؤتمر العربي الأول في باريس.

أربع جلسات

عقد أعضاء المؤتمر أربع جلسات في يونيو/ حزيران 1913، وشارك في الجلسات ممثلون عن حزب اللامركزية في مصر وجمعية بيروت الإصلاحية ومجموعات من المهاجرين الشاميين في أميركا الشمالية والمكسيك وغيرها من وفود جاءت إلى باريس سرا من اسطنبول ودمشق وحلب والقدس وانتهى المؤتمر بصدور بيان عام شمل الكثير من القرارات أبرزها: إصلاح السلطنة، تمتع العرب بحقوقهم السياسية من خلال المشاركة في الإدارة المركزية، إنشاء إدارة مركزية في كل ولاية عربية، توسيع صلاحيات السلطات المحلية، اعتماد اللغة العربية لغة رسمية في الولايات العربية وجلسات النواب العثمانية، اعتبار الخدمة العسكرية ليست إلزامية في الولايات العربية.

هذه المقررات تكشف عن تلك الهواجس السياسية المتصلة بالإدارة التركية (القومية العسكرية) التي أخذت تمارسها جمعية «الاتحاد والترقي» ضد العرب. فالبيان النهائي لم يطالب بالاستقلال أو الانفصال وإنما بالإصلاح الإداري، ولم يتجه نحو الدعوة إلى فك الارتباط العربي - التركي وحل السلطنة وإنما أكد على الوحدة ضمن المساواة ومن دون تمييز. وهذا يدل على أن فكرة «القومية العربية» كانت غير واضحة في معالمها وحدودها وأهدافها. وكان دعاة الفكرة غير متفقين على برنامج سياسي يحدد أولويات المرحلة. مثلا الخطر آنذاك لم يكن من السلطنة بل من ذاك الاجتياح الاستعماري الذي جرف الولايات والمناطق من المحيط إلى الخليج وصولا إلى مصر وضفاف النيل والسويس على تخوم المشرق العربي. كذلك كان الخطر بدأ يظهر من الصهيونية وتحركاتها واتصالاتها وتوظيفاتها ونجاحها في تأسيس مستوطنات صغيرة في فلسطين وبالقرب من يافا.

المؤتمر العربي الأول في باريس لم يذكر في بياناته ومقرراته المخاطر المتأتية من الاستعمار الأوروبي والاستيطان الصهيوني. كما أنه تردد في توضيح فكرته عن الحرية والاستقلال واكتفى بتسجيل ملاحظات تعتب على السلوك الشوفيني وسياسة التفرقة والتتريك التي ابتدعتها جمعية الاتحاد والترقي بعد انقلابها على السلطان عبدالحميد الثاني.

إلى هذه الإرباكات النظرية والسياسية وضعف الرؤية وقلة الإمكانات تولدت داخل «المؤتمر العربي الأول» مجموعة مشكلات. الأولى أن الجلسات عقدت في عاصمة دولة استعمارية ترتكب المجازر في الجزائر وتحتل الولايات العثمانية في المغرب وتونس. وهذه المشكلة أثارت هجمة عثمانية اتهمت المجتمعين بالعمالة والتعامل مع الأجنبي ضد مصالح الأمة ووحدتها.

الثانية أن غالبية المشاركين في المؤتمر من «الشوام» الأمر الذي أعطى مشروع القومية صبغة إقليمية مشرقية. وظهرت الهوية العربية وكأنها تقتصر على جغرافيا محصورة سياسيا في دائرة الولايات التابعة إداريا للسلطنة العثمانية. وعززت هذه المشكلة تلك الاتهامات التي انهالت على أعضاء المؤتمر الذي لم تشارك في جلساته تلك الشخصيات العربية والمسلمة التي تجاهد ضد الاستعمار البريطاني والفرنسي في مصر والسودان والمغرب وأيضا الإيطالي في ليبيا.

المشكلة الثالثة كانت في خلل التمثيل الديموغرافي للطوائف الشامية إذ شكل المسيحيون المشارقة نصف المشاركين في المؤتمر. وهذا ما أعطى الانطباع بأن الفكرة القومية العربية مسيحية المنشأ ولا تعكس رغبة عامة أو مشتركة بين المسيحيين والمسلمين. وبسبب هذا التمثيل المتساوي في طوائف المشاركين انتهى المؤتمر إلى تشكيل هيئة انتخب الشيخ عبدالحميد الزهراوي رئيسا لها واسكندر عمون (ماروني لبناني) نائبا للرئيس.

بدأ المشروع العربي في باريس خطوته الأولى ناقصة. فهو تغاضى عن الكثير من الكوارث التي تتعرض لها المنطقة في بلدان المغرب وليبيا ومصر والسودان والخليج واكتفى بالتركيز على الجانب الإداري والإصلاحي في العلاقة بين المشرق العربي (الشام) واسطنبول. وبسبب ضعف الرؤية والنقص في التمثيل والخلل في التوازن قررت حكومة «الاتحاد والترقي» في اسطنبول الانفتاح على المؤتمر العربي وعدم استفزاز قادته فأرسلت وفدا إلى باريس للتفاوض مع الهيئة المنتخبة ووقعت على اتفاق معها اشتمل على 13 مادة أخذت في الاعتبار تلك الهواجس والمطالب الإدارية والإصلاحية التي خرج بها أعضاء المؤتمر.

إلا أن بنود الاتفاق لم تنفذ لاعتبارات مختلفة منها أن الباب العالي في اسطنبول اكتشف ضعف التمثيل العربي في المؤتمر الذي فشل في تحويل الفكرة القومية من مطلب نخبوي تقول به مجموعة من المثقفين إلى حركة جماهيرية عامة تحمل مشروعها الغالبية المسلمة. كذلك وجدت اسطنبول أنها لا تستطيع تقديم تنازلات لقوى سياسية لا تشكل غالبية ولا تمثل كل وجهات النظر. فهناك الكثير من القوى المشرقية كانت ترفض الانفصال وتتخوف من أن تكون دعوات الاستقلال القومي مجرد غطاء سياسي لزيادة جرعة التدخل الاستعماري الأوروبي في ولاية الشام.

إلا أن الحادث الأهم الذي عطل الإسراع في تلبية المطالب التي اتفق عليها كان اندلاع الحرب العالمية الأولى. فهذا الحادث العالمي الخطير وقع بعد سنة من انتهاء أعمال «المؤتمر العربي الأول» وهو سيتكفل في نهاية الحرب بإنهاء السلطنة العثمانية وطرد هيئاتها وجيشها من المشرق.

الحرب العالمية الأولى ونهاية الحلم العربي

شكلت الحرب العالمية الأولى مناسبة لإعادة صوغ العلاقات العربية - التركية في ضوء المتغيرات الدولية التي عصفت بأوروبا. فالحرب الكبرى أعادت تشكيل خريطة التحالفات فوضعت ألمانيا والسلطنة العثمانية في مواجهة بريطانيا وفرنسا. وهذا ما انعكس على مختلف التوجهات العثمانية والقومية في المشرق العربي.

الحكومة الاتحادية في اسطنبول قررت الإقلاع عن سياسة الصمت فأقدمت على اعتقال معظم المشاركين في «المؤتمر العربي» وقيادات من حزب اللامركزية وحكمت عليهم لاحقا بالإعدام. كذلك قررت قيادات الجمعيات العربية مغادرة سياسة التردد وبدأت تطرح بوضوح فكرة الاستقلال القومي والانفصال عن السلطنة وأخذت تتجه نحو تحديد سؤال الهوية والإجابة عن «من هو العربي؟» مستفيدة من انشغال السلطنة بالحرب. آنذاك أصدرت «الجمعية الثورية العربية» بيانا بعد اندلاع الحرب في العام 1914 أكدت فيه «ان المسلمين والمسيحيين واليهود سواء في العروبة والوطنية». وشكل هذا الربط الديني بين الديانات الثلاث خطوة حاسمة باتجاه الفصل بين القومية والدين. وفي السنة نفسها وجه رئيس حزب اللامركزية رفيق العظم رسالة إلى محمود المحمصاني في بيروت لا يمانع فيها أن يدخل اليهود الجمعية إذا «تجنسوا بالجنسية الوطنية». الفكرة نفسها جاءت أيضا في وصية عبدالغني العريسي في العام 1915 حين أكد أن العربي هو «المسلم والمسيحي واليهودي. فالجميع عرب».

ساهمت الحرب في إطلاق سلسلة نقاشات فكرية أوضحت الكثير من الغموض القومي في الحركة العربية. كذلك شجعت القوى السياسية على تكثيف الاتصالات مع المندوبين البريطانيين في القاهرة. فآنذاك أعلنت بريطانيا بسط الحماية الأجنبية على مصر في العام 1914. وشكل الإعلان صدمة للأحرار العرب، ولكنه أيضا طور فكرة «لا مانع من الاستعانة بإحدى الدول الكبرى لتحقيق الاستقلال العربي».

وتحت شعار «لا مانع من التعامل» بدأت اللقاءات العربية مع اللورد كتشنر بهدف الاستفادة من القوة البريطانية ودعمها لتعزيز هدف الاستقلال وتأسيس دولة عربية في المشرق والحجاز والعراق. وأدت تلك الاتصالات إلى رفع نسبة قلق حكومة «الاتحاد والترقي» من الأنشطة العربية فقررت إلغاء معاهدة الامتيازات الأجنبية والنظام الخاص (متصرفية جبل لبنان) في 9 سبتمبر/ أيلول 1914 حتى لا تشكل ثغرات سياسية يمكن النفاذ منها إلى منطقة استراتيجية وحيوية تحتاجها السلطنة في معاركها الكبرى مع بريطانيا.

حتى العام 1914 لم تكن فكرة الانفصال العربي عن تركيا واردة بقوة في الأدبيات السياسية إلا أن اندلاع الحرب شجع الجمعيات على حسم خياراتها وأخذت تعمل سرا على كسب عطف القوى الأوروبية وتأييدها في معركة الاستقلال.

بريطانيا التقطت بسرعة تلك الإشارات فأخذت ترسل الوفود والرسائل وتطلق الوعود بقصد شق التحالف العربي - التركي وإرباك اسطنبول وبعثرة قواها في صراعات محلية. وحكومة «الاتحاد والترقي» التركية تخوفت من تطور هذا الاحتمال فأخذت تتشدد في سياسة المراقبة والملاحقة إلى أن فشل الجيش التركي الرابع بقيادة جمال باشا في استرداد قناة السويس من الإنجليز في فبراير/ شباط 1915.

فشل الهجوم أدى إلى انقلاب الموقف التركي على المجموعات العربية على رغم أن العرب قاتلوا إلى جانب الأتراك في معركة استرداد السويس. وردا على الفشل أصدر جمال باشا من مقره في بئر السبع (فلسطين) ثم من عاليه (لبنان) سلسلة قرارات انتهت بإعدام قادة الحركة العربية ورموزها في بيروت ودمشق بتهمة التعامل مع السفارات والقناصل. فكانت الدفعة الأولى في 1915 ثم أعقبتها دفعة ثانية في 6 مايو/ أيار 1916.

أعطت الإعدامات ردة فعل معاكسة وشجعت الزعماء العرب على إعلان الثورة العربية الكبرى بالتواصل والتعاون مع بريطانيا التي تحركت بسرعة واستغلت الهياج والغضب والشعور بالمرارة. آنذاك كانت الاتصالات العربية - البريطانية وصلت إلى مستوى متقدم من تبادل الرسائل واستقبال الوفود والتعامل مع المستشارين (لورنس العرب مثلا). وشكلت الرسائل المتبادلة بين مكماهون والشريف حسين مادة تحريض لإعلان الثورة والعمل لاحقا على تأسيس دولة عربية مستقلة عن الأتراك.

مكماهون والشريف حسين

تبلغ الرسائل المتبادلة بين 1915 و1916 عشرا وهي تتضمن إشارات بريطانية ملغومة وغير واضحة ومغلفة بوعود مبهمة تتحايل على المطالب مستفيدة من اختلاف الترجمة و حشر مصطلحات تشير إلى خطوط طول وعرض حتى تتجنب ترسيم الحدود وخصوصا في موضوعات لواء الاسكندرون وفلسطين وشمال العراق.

هذا الغموض الدبلوماسي اتضح لاحقا أنه متعمد نظرا لوجود سياسة سرية أخرى مضادة للفكرة العربية والوحدة القومية. ففي الوقت الذي كان فيه مكماهون يتبادل الرسائل مع الشريف حسين كانت الإدارة البريطانية (وزير الخارجية مارك سايكس) تتفاهم مع الإدارة الفرنسية (وزير الخارجية جورج بيكو) على تقسيم المشرق العربي الى دويلات سياسية تخضع للانتداب الأجنبي. كذلك كانت الحكومة البريطانية تواصل تطوير اتصالاتها مع «الوكالة اليهودية» إلى أن أعلنت عن وعد بلفور.

معاهدة سايكس - بيكو وضعت في العام 1916 وكشف سرها في نهاية 1917 بعد أن انفضح أمر وعد بلفور في نوفمبر/ تشرين الثاني 1917. المعاهدة والوعد أثارا السخط ورفعا من درجة الاتهام بالخيانة وهذا ما دفع الحكومة البريطانية إلى تكليف حاييم وايزمن القيام بزيارة للقاهرة وتطمين الزعماء العرب ونفي مزاعم الأطماع الصهيونية في فلسطين.

كل هذه الاتصالات واللقاءات والوعود والتطمينات لم تنجح في وقف التدهور الذي حصل. فتركيا خسرت المعركة في المشرق واضطرت إلى سحب جيشها إلى حدودها في الاسكندرون وكليكيا للدفاع عن وجودها. بريطانيا اخترقت قناة السويس وتقدمت باتجاه فلسطين لاحتلالها والبدء في تنفيذ «وعد بلفور». فالأمور تغيرت والمعادلة انقلبت ولم يعد بالإمكان تصحيح التوازنات إلا بتأسيس قوة عربية قادرة على المواجهة والحد من الخسائر السياسية.

انتهت الحرب العالمية الأولى في العام 1918 واستمرت الآمال العربية بتأسيس دولة قومية مستقلة في المشرق تجمع تلك الولاية السورية مع الحجاز والعراق. إلا أن تحالف بريطانيا وفرنسا واصل تنفيذ الاتفاقات وإعادة توزيع الغنيمة من خلال الاجتماعات التي عقدها لويد جورج مع كليمنصو برفقة الماريشال فوش في العام 1918.

حاول الزعماء العرب (الشريف حسين وابنه الأمير فيصل) تحسين شروط التفاوض وانتزاع الحد الأدنى من الطموحات العربية إلا أن موازين القوى الجديدة غيرت المعادلات وأخذت الرياح تتجه عكس ما تشتهي السفن العربية. فالاتفاق الذي عقده فيصل مع وايزمان في يناير/ كانون الثاني 1919 ذهب أدراج الرياح. كذلك أسفر مؤتمر السلم في باريس 1919 عن صفقات مؤقتة سقطت في خضم التحولات الدولية والصراعات التقليدية بين فرنسا وبريطانيا.

مقابل ذلك كانت الفكرة القومية لاتزال غير واضحة. وحين انعقد المؤتمر السوري في دمشق أعلن في العام 1919 أن وحدة سورية تمتد من جبال طوروس شمالا إلى رفح جنوبا. وكرر المطلب نفسه في العام 1920 حين أكد على وحدة سورية الطبيعية مرة أخرى. حتى هذه المطالب المتراجعة والمتواضعة لم تلق القبول.

العالم بعد نهاية الحرب العالمية الأولى تغير وكل الكلام الذي قيل قبل تلك الفترة انتهى مع بداية اضمحلال السلطنة العثمانية وخروجها من خريطة «الشرق الأوسط». وهذا ما ظهر لاحقا بعد احتلال الجنرال البريطاني اللنبي القدس في 1918 واحتلال الجنرال الفرنسي غورو بيروت ثم دمشق في العام 1920. احتلال سورية بعد موقعة ميسلون ومقتل وزير الدفاع العربي الأول يوسف العظمة أنهى حكومة فيصل الأول وشطب من المعادلة الدولية مشروع الوحدة العربية وكل تلك الأحلام التي أثارت المخيلة ولاتزال تطارد العقل العربي التائه في خياراته حتى الآن.

المؤتمر القومي في المنامة

سقوط الحكومة العربية الأولى في دمشق أحبط مشروع الوحدة القومية منذ العام 1920، إلا أن الفكرة لم تسقط ولايزال الحلم يدغدغ المشاعر ويثير المخيلة ويطرح الأسئلة على العقل القلق على المصير المشترك والمستقبل المجهول.

من العام 1920 حتى انعقاد المؤتمر القومي العربي (الدورة الثامنة عشرة) في المنامة بين 28 و30 أبريل/ نيسان الماضي، لايزال حلم الوحدة وعقباته وعثراته يعاد إنتاجه دوريا من دون تقدم.

87 سنة مضت على انكفاء المحاولة الأولى ولاتزال تتكرر المحاولات والإخفاقات وتزداد المشكلات والاضطرابات وتتنوع مصادر الخطر. والبيان الختامي الذي صدر في نهاية ثلاثة أيام من النقاشات يوجز الكثير من المحطات التي تعاقبت على الأمة منذ العام 1920 إلى العام 2007. وما ورد في بيان المنامة يعطي لمحة عن نهايات الحلم ويوفر الكثير من الاجتهاد لتوضيح معالم الصورة العامة التي وصل إليها الوطن العربي من محيطه إلى خليجه. فالكلام لم يتغير والمظالم لم تتعدل والطموحات السابقة تراجعت وحلّت مكانها شكاوى تتحمّل مسئولياتها قوى خارجية وداخلية متفرقة.

المؤتمر القومي في المنامة كشف في بيانه الختامي عن مخاطر تلك الهجمة الشرسة والعنصرية التي تتعرض لها «الهوية الثقافية العربية». وربط المؤتمر بين أساليب الاختراق وتلك الفضاءات الداكنة التي تخيم على الشعوب العربية والمتمثلة في قوانين الطوارئ ومنع المشاركة السياسية وضرب الحريات المدنية والسياسية والتزييف والتزوير واعتقال الناس وعدم اعتماد المساواة أمام القانون.

منذ 1920 إلى 2007 لاتزال حال الأمة على حالها. فالبيان الختامي في المنامة أوجز صورة الفشل في فِقرات وكلمات. فهو تحدث عن سياسات الإبادة الجماعية والتفكك وشطب الهوية العربية والقهر والاستيطان والحصار والاجتثاث مطالبا بالسعي إلى «تجسيد المرجِعية الفكرية العامة للمشروع النهضوي العربي».

أورد بيان المنامة القومي مجموعة عناوين تلخص أهم الملفات الساخنة ونقاط التوتر في المنطقة العربية فجاء على ذكر فلسطين ومحاولات تهويد القدس. وطالب بفك الحصار عن الشعب ودعم حقه في العودة ورفض التوطين. مشيرا إلى ما يتعرض له الفلسطينيون في العراق والمحاصرون على حدوده مع سورية من سوء معاملة. وذكر البيان الختامي كارثة العراق، محذرا من مخاطر مشروعات التقسيم والحرب الأهلية والفتنة الطائفية، ومؤكدا رفضه الاحتلال الأميركي والمشروعات الفيدرالية وجدران العزل الطائفي والممارسات الإجرامية، مستنكرا الفتاوى التكفيرية والعنصرية. وسجّل البيان اعتراضه على سياسات إيران تجاه العراق التي تسيء إلى وحدته وإلى هويته العربية. وعن لبنان حيّا المؤتمر الانتصار الاستراتيجي على الكيان الصهيوني ودعا الدول الكبرى إلى عدم التدخل في شئونه وإدخاله في مشروعات إقليمية (الشرق الأوسط الجديد أو الكبير) وطالب بإعادة فتح قنوات الحوار بين لبنان وسورية على قواعد الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. وبشأن الخليج، حذر البيان من وجود القواعد الأجنبية وما تحمله من تهديد للأمن القومي العربي المتمثلة في الأحلاف ذات الأبعاد السياسية والعسكرية. وعن السودان، أشار البيان إلى تمسكه بهويته وبوحدته وباستقلاله وبموارده الطبيعية في مواجهة الهجمة الامبريالية الأميركية المتجددة عليه. وأدان البيان سياسة العدوان التي تمارسها إثيوبيا في الصومال بالنيابة عن أميركا و «إسرائيل»، محذرا من محاولات الوقيعة بين الأفارقة والعرب. كذلك أشار البيان إلى تلك العمليات الإرهابية في المغرب العربي التي تهدف إلى زعزعة استقراره خدمة للمشروعات الاستعمارية. البيان الختامي للمؤتمر القومي العربي في المنامة يختصر الكثير من المسافات الزمنية ويوضح المآل الذي وصلت إليه الأمة بعد أن طال حلم الوحدة ولايزال يطارد العقل العربي التائه في خياراته حتى الآن. فالصور تكرر نفسها وإن اختلفت المشاهد والأدوات والوجوه والأسماء. والكلام يُعاد إنتاجه وإن اختلفت المفردات والمصطلحات وتضخمت المخاوف والهواجس. فالأمة دشنت معاركها مع «الجيش التركي» في العام 1916 فواجهت الإحباطات السياسية بعد تلك الصدامات مع البريطانيين والفرنسيين ثم لاقت خيبة الأمل بسقوط حكومة فيصل الأول في دمشق.

الآن وبعد مرور 87 سنة على ذاك الحدث توسعت دائرة الفشل وبات على المُؤتَمِرِين في المنامة وضع لائحة بالكوارث والنكبات من فلسطين والاحتلال الصهيوني إلى العراق والاحتلال الأميركي وصولا إلى الصومال والاحتلال الإثيوبي. وبين هذا الاحتلال وذاك تقف الأنظمة العربية الممتدة والمنتشرة في طول الأمة وعرضها لتزيد الطين بلة وترفع من درجات التوتر والقلق والإحباط.

إنها حكاية طويلة. والبيان الختامي في المنامة ليس فصلها الأخير.

العدد 1703 - السبت 05 مايو 2007م الموافق 17 ربيع الثاني 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً