اسمه الأصلي فارس بن منصور الشِّدْيَاق (1805 – 1887)، كاتبٌ لبنانيٌ غزيرٌ. انتقل إلى مصر وتعلّم اللغة والأدب والنحو والبلاغة والصرف والشعر، وعُيِّن مُحرِّرا في صحيفة «الوقائع المصرية».
وفي العام 1834 قصد مالطة لمساعدة المُبشّرين في مدارسهم وتصحيح ما يطبعون من كتب عربية. جال في بريطانيا وفرنسا، ومدح باي تونس (الحاكم) تقديرا لمساعداته لفقراء باريس في زيارته لفرنسا، فأرسل له الباي سفينة خاصة، نقلته إلى تونس، وهناك أعلن إسلامه. وترك الشدياق نحو عشرين كتابا، في اللغة والأديان المقارنة والأدب والشعر وأدب الرحلات. ولأنه عاش في نهاية القرن التاسع عشر، جاءت عناوين مؤلفاته مغموسة في السجع: «كشف المخبا في فنون أوروبا»، «الواسطة في معرفة أحوال أهل مالطة»، «الساق على الساق في معرفة الفارياق»، «منتهى العجب في خصائص لغة العرب»، «سند الراوي في الصرف الفرنساوي»، «الباكورة الشهية في نحو اللغة الإنكليزية»، وكلها عناوين تبعث القارئ المعاصر على الابتسام. على أن أشهرها «الجاسوس على القاموس»، الذي انتقد فيه «القاموس المحيط» للفيروزآبادي الذي عاش قبله بعدة قرون، كل ذلك تشفيا من غريمه بطرس البستاني الذي ألف «محيط المحيط» اعتمادا على الفيروزآبادي!
هذا ما كان يجري في القرن التاسع عشر، أما في القرن الجديد، فكما قال المتنبي «أنام ملء جفوني عن شواردها» ولكنك تستيقظ على قعقعة التقارير!
تقارير شاملة كاملة كالبحر المحيط، مكتوبة بمنتهى «الحرفنة» والمهنية وأعلى درجات «الصدقية»، كأنما الإحساس يقض مضجع كاتبها من أن يُتهم في دقته أو إخلاصه أو مهنيته! وأمام وقع الصدمة تتساءل: إلى هذه الدرجة يكون الإخلاص والدقة و «الحرفنة» في كتابة التقارير؟
التقارير كانت بضاعة تطلب في زمنٍ سابقٍ للإيقاع بكلّ من يحمل فكرة لا تعجب الحكومة، وهكذا استفادت طوابير من «كتبة التقارير» في جيلين، عاش أحدهما في ظل الاستعمار الانجليزي، وعاش الآخر وانتعش بعد الاستقلال، أما الجيل الجديد من كتبة التقارير فيعيش على لحوم زملائه الغافلين، وميزته أنه اكتسب مناعة قوية، بسبب ما يتمتّع به من درجةٍ عاليةٍ من التمويه. حتى أكبر الشكّاكين يمكن أن يخدعه بـ «مهنيته العالية»، وكثرة الثرثرة عن «الصدقية»، خصوصا إذا حصل على جائزة تغطّيه!
وإذا كانت التقارير سموما لا خير فيها، إلاّ أن ميزة التقارير الأخيرة انها أسقطت ورقة التوت الأخيرة التي سترت البعض أكثر مما يلزم. فمن فوائد التقارير «السرية» الأخيرة، على قسوتها، أنها هزّت الكثيرين من أصحاب النوايا الحسنة ونبّهتهم من غفلتهم، ليكتشفوا أن حسن الظن أحيانا يمكن أن يصبح نوعا من السذاجة.
جاسوس القرن التاسع عشر لم يكن يكتب التقارير «المخابراتية» عن زملائه الصحافيين أو عن مؤسسته التي تفترض أخلاقيات العمل وشرف المهنة أن يكون أمينا على أسرارها، وإنما كان يتتبع الكلمات العربية ويصحّحها ليؤلف قاموسا لغويا جديدا.
جاسوس القرن التاسع عشر كان شريفا نبيلا، باحثا عن شوارد اللغة، أما جاسوس القرن الحادي والعشرين فيكتب التقارير التي لا ينسى فيها حتى أسماء الموظفين الآسيويين! إنها «ملحقٌ محيط»... لم يترك شاردة ولا واردة إلاّ أحصاها... حتى «اكتب/ لا تكتب»، وكان الله في عون الغافلين!
إن ثرثرة عشرين عاما عن المهنية والصدقية لا تمحو عار كتابة التقارير، وكل جوائز الدنيا لا تغطي على عملية الالتحاق بسلك الجاسوسية والجواسيس!
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1703 - السبت 05 مايو 2007م الموافق 17 ربيع الثاني 1428هـ