أكثر من 150 ألف متظاهر تجمعوا في ساحة إسحق رابين في تل أبيب احتجاجا على رفض رئيس الحكومة الإسرائيلي إيهود أولمرت الاستقالة من منصبه بعد صدور التقرير المرحلي من تحقيق لجنة «فينوغراد» بشأن إخفاقات العدوان الأميركي - الصهيوني على لبنان في الصيف الماضي.
التظاهرة ضمت مختلف الأطياف بينها هيئات واتحادات نقابية وطلابية وبعض الأحزاب اليمينية المتطرفة في عنصريتها ومنظمات يسارية وعمالية وغيرها من الشخصيات السياسية التي تطمح في التغيير الوزاري حتى تتبوأ المقاعد الشاغرة. فالتظاهرة ملونة في اتجاهاتها الأيديولوجية إذ جمعت الوصولي والانتهازي والرجعي والعنصري وأعداء السلام والحرية وأنصار الحرب والعدوان إلى جانب القوى المنفتحة التي ترى أن سياسة القوة والاستيلاء والاضطهاد والاقتلاع وصلت إلى طريق مسدود ولابد من البحث عن مخارج سلمية لإنقاذ الدولة العبرية ومحيطها من كوارث تهدد أمنها وحدودها وربما وجودها.
الكل تظاهر لأسبابه وكل فريق رفع شعارات تنسجم مع خلفيته الأيديولوجية. فالبعض يطالب أن تكون الحرب على لبنان الأخيرة والبعض يطالب أن يعاد إنتاج الحرب لأخذ الثأر بطريقة أفضل والانتقام بأسلوب أكثر همجية ووحشية. وهذا الاختلاف في منطق القراءة يكشف عن وجود اتجاهات أكثر تطرفا أخذت تستغل تقرير لجنة التحقيق لحسابات حزبية تطمح أن تكسب جولة سياسية من أجل الوصول إلى السلطة وقيادة الدولة باتجاه المزيد من الجولات العسكرية.
في كل الأحوال بات وضع أولمرت في موقع صعب ولم يعد بإمكانه كسب الوقت لرفع المسئولية عن حكومته التي تخبطت في اتخاذ قرارات عشوائية ظهرت سياسيا وعسكريا وميدانيا خلال فترة العدوان التي امتدت نحو 34 يوما. أولمرت الآن عليه الرحيل أو العودة إلى حزبه (كاديما) لتجديد الثقة بقيادته أو التنحي لمصلحة قوة بديلة. وفي حال رفض الاستجابة للضغط الحزبي - الشارعي فمعنى ذلك أن الأزمة الحكومية ستستمر حتى لو دعمته إدارة واشنطن وأمنت له الحماية الدولية والرعاية السياسية.
استمرار الأزمة الوزارية في تل أبيب يرتبط إلى حد بعيد بمدى نمو المعارضة في الشارع وتوسع نطاقها لتشمل قطاعات واسعة لم تتحرك حتى الآن بانتظار ما ستسفر عنه تداعيات صدور التقرير في نسخته النهائية. وفي حال صدر تحقيق اللجنة في مرحلته الأخيرة وأصر أولمرت على التجاهل وعدم الاكتراث فإن حال الأزمة سيصل إلى طور أعلى وسيؤدي إلى زيادة الضغط على أولمرت للاستقالة وربما الدعوة إلى أجراء انتخابات نيابية مبكرة. وهذا الأمر يريده زعيم حزب «الليكود» بنيامين نتنياهو ويخطط له. فهذا الزعيم المتطرف في عنصريته وحقده وكراهيته يرى أن هناك فرصة له بإعادة انتخابه رئيسا للحكومة في اعتبار أن مختلف استطلاعات الرأي تشير إلى احتمال فوزه في حال جرت الانتخابات في هذه المرحلة.
نتنياهو يعتبر من أسوأ الوجوه السياسية المقرفة في توجهاتها العنصرية المعادية للفلسطينيين والعرب والدول المجاورة وتحديدا لبنان. وهو لا يقل تطرفا وخطورة عن زعيمه السابق أرئيل شارون الذي دخل منذ فترة في «غيبوبة» صحية. فهذا الثنائي الليكودي رفض قرار الانسحاب من جنوب لبنان في العام 2000، كذلك رفض اتفاق أوسلو وعودة ياسر عرفات وطالب مرارا بإعادة الاحتلال والاجتياح وأحيانا طرد الفلسطينيين من أرضهم وأرزاقهم.
نتنياهو إذا هو الشخص المرجح أن يفوز بالانتخابات الإسرائيلية في حال غادر أولمرت موقعه وفشل حزبه في إعادة تركيب ائتلاف وزاري يضم تلك الأطياف المتشكلة من وجهات نظر وأيديولوجيات ملونة بأنواع مختلفة في القراءات السياسية للدولة العبرية ووجودها ومستقبلها بالمنطقة وعلاقتها بالمحيط.
هذا الاحتمال الذي أشارت إليه استطلاعات الرأي يؤكد من جديد على طبيعة الكيان العبري وميوله الدائمة نحو التطرف والانغلاق. فالفشل لا يعني دائما أن الكيان الصهيوني أخذ العبرة وتعلم الدرس وبدأ يفكر باتجاه موضوعي حتى يسلك الطريق السليم. الفشل عند غالبية الأطياف السياسية الصهيونية يعني في معظم الأحيان عدم أخذ العبرة والبحث عن ذرائع أخرى للثأر والانتقام. وردة الفعل هذه تشير بوضوح إلى أن طبيعة الكيان الاستيطاني تميل دائما نحو التطرف والمزيد من الانغلاق والانكفاء والتقوقع في «قلعة» تنطلق منها لكسر المحيط الذي يجاورها.
بعد 25 سنة
ردة الفعل هذه حصل مثلها في العام 1973 حين وقعت حرب أكتوبر/ تشرين الأول ونجح الجيشان المصري والسوري في اختراق الموانع العسكرية وتحطيمها في الأسبوع الأول من المعارك. تل أبيب آنذاك تحركت ضد قيادة حزب «العمل» التاريخية بعد وقف إطلاق النار، وتشكلت لجنة تحقيق اتهمت في تقريرها رموز «العمل» المقدسة مثل غولدامائير وموشي دايان بـ «التقصير» الأمر الذي أدى إلى غياب حزب «العمل» المؤسس للدولة عن المسرح السياسي نحو عشر سنوات تاركا المواقع لحزب «الليكود» الذي أحكم سيطرته على الحكومة إلى أن قرر اجتياح لبنان في يونيو/ حزيران 1982.
قرار العدوان اتخذه الثنائي مناحيم بيغن وشارون بتغطية من الإدارة الأميركية التي كان يرأسها الراعي التاريخي لتيار «المحافظين الجدد» رونالد ريغان ونائبه جورج بوش (الأب)، إضافة إلى الوزير المتطرف والمجنون الكسندر هيغ. في تلك الفترة كان حزب «العمل» خارج السلطة والصورة السياسية، وحين اندلعت الحرب العدوانية تحركت آلته التنظيمية ونزلت جماهيره إلى الشارع تطالب بوقف الأعمال العسكرية.
حزب «العمل» وجد في ذاك العدوان فرصة سياسية له لأخذ ثأره من «الليكود» الذي استفاد من «تقصيره» في حرب أكتوبر. ولكنه أيضا انخرط في حركة احتجاج عامة اعتبرت في أيامها أنها الأكبر في تاريخ «إسرائيل» منذ تأسيسها.
مظاهرات الاحتجاج آنذاك قادتها حركة «السلام الآن» لمدة أسابيع متتالية نجحت مرارا في إنزال أكثر من 250 ألف متظاهر في شوارع تل أبيب ضد الحرب ومطالبة بالسلام الآن. طبعا الحكومة الإسرائيلية المتعاونة مع إدارة ريغان - بوش رفضت الاستجابة للدعوات والاحتجاجات واستمرت في عدوانها على رغم محاصرة بيروت مدة ثلاثة أشهر ومغادرة عرفات والجيش الفلسطيني العاصمة اللبنانية. وانتهى العدوان بمجزرة رهيبة في مخيمي صبرا وشاتيلا الأمر الذي دفع ريغان إلى إقالة هيغ واستبداله برئيس شركة «بكتل» للمقاولات جورج شولتز. كذلك أزيح شارون عن وزارة الدفاع وأحيل إلى المحكمة التي أصدرت بحقه تهمة «الإهمال» وعدم حماية المخيمات الفلسطينية من هجمات «القوات اللبنانية» و «جيش لبنان الجنوبي». فالمحكمة برأت شارون من المسئولية ورمتها على قوى محلية لبنانية واكتفت بتوجيه عتب أطلقت عليه «الإهمال».
تهمة «الإهمال» كانت كافية لإضعاف «الليكود» الذي دخل في جمود سياسي بعد إزاحة شارون وإقدام بيغن على اتخاذ قرار بالاعتزال تاركا الساحة لنائبه إسحق شامير. إلا أن شامير لم ينجح في احتفاظ «الليكود» بغالبية المقاعد بعد إجراء الانتخابات النيابية فاضطر إلى تشكيل حكومة ثنائية جمعته في حكومة واحدة مع «العمل». وأدى هذا التحالف الثنائي إلى تشكيل قوة حزبية - شارعية أضعفت حركة «السلام الآن» التي بدأت شعبيتها بالتراجع بسبب تقلص الزخم الذي ولدته سياسة العدوان على لبنان في العام 1982.
الآن وبعد مرور 25 سنة على العدوان الأول تحرك الشارع الإسرائيلي مجددا ضد نتائج العدوان الثاني. ولكن بين 1982 و2007 هناك مجموعة نقاط مفارقة لابد من الانتباه إليها لتحديد المناخات المتخالفة بين المشهدين. في المشهد الأول قاد «الليكود» الحرب منفردا ومن دون مشورة حزب «العمل» وهذا ما دفع الحزب إلى تحريك الشارع تحت قيادة حركة «السلام الآن» التي رفعت شعارات واضحة ضد الحرب وطالبت بالسلام فورا مع لبنان والجيران.
في المشهد الثاني قاد «كاديما» بالتحالف مع «العمل» العدوان بينما «الليكود» المتطرف في عنصريته وعدوانيته خارج السلطة. وهذا ما دفع قيادته إلى استخدام الشارع واستغلال النقمة لإثارة الناس ضد «التقصير» و «الإهمال» و «الإخفاقات». فالتحرك الآن ليس ضد مبدأ الحرب وليس بدافع الدعوة إلى السلام وإنما يتخذ من «الفشل» واسطة للتغيير وإعادة تأسيس عناصر جديدة لاستكمال العدوان.
الفارق بين مضمون الحركتين أن الاحتجاج الأول تغلبت عليه نزعة مصطنعة تميل نحو المسالمة والموادعة بينما الثاني تتغلب عليه نزعة واضحة تميل نحو تجديد الحرب واستئناف العدوان لتحقيق تلك الأهداف التي أعلن عنها أمام الكنيست الإسرائيلي.
الفارق بين الحركتين يدل على أن هذا الكيان الاستيطاني لم يتغير بعد مرور 25 سنة على العدوان الأول، بل إن الاحتجاج الذي ظهر بعد العدوان الثاني يميل إلى مزيد من التطرف والانغلاق ورفض التفاوض والانفتاح أو القبول بالطرف الآخر شريكا للتسوية والسلام.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1703 - السبت 05 مايو 2007م الموافق 17 ربيع الثاني 1428هـ