العدد 1702 - الجمعة 04 مايو 2007م الموافق 16 ربيع الثاني 1428هـ

قمة شرم الشيخ... وما بعدها

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

تبني الدول المجتمعة في مؤتمر شرم الشيخ وثيقة «العهد الدولي لمساعدة العراق» التي صدرت قبل شهور عن الأمم المتحدة بالتفاهم مع حكومة بغداد لا يعني ان كارثة بلاد الرافدين وصلت الى حدها الأقصى من الانهيار. فالتوافق الدولي على احتواء الانهيار قد يساعد على وضع الأزمة على سكة الحل الا أن التوصل الى حل يحتاج إلى تسويات تتجاوز النقاط والأطر التي تضمنتها وثيقة «العهد الدولي».

الوثيقة الدولية تقترح مجموعة نقاط تتصل بالمساعدة على مستوى خفض الديون وجدولتها والتعهد بتقديم القروض والمعونات للمباشرة في إعادة الإعمار. والوثيقة ايضا تضع خطة طريق تحتاج الى مدة خمس سنوات لتطبيقها في حال توافق الأطراف المعنية والإقليمية على ضوابطها الأمنية والسياسية.

الحل النهائي مؤجل في العراق على الأقل لمدة خمس سنوات وهذا يعني ان تداعيات الكارثة التي انتجتها إدارة «المحافظين الجدد» في واشنطن ستستمر حتى لو انسحب جيش الاحتلال الأميركي أو رحل جورج بوش من موقع الرئاسة بعد سنتين.

ما حصل في العراق أخطر بكثير من كل تلك القراءات التي تظهر على شاشات التلفزة وفي دوائر الأمم المتحدة أو في اروقة الكونغرس. فالعراق الآن كدولة غير موجود على أرض الواقع. والخريطة العراقية لم تعد تلك التي نرى حدودها السياسية على الأوراق، فهي تحولت إلى خرائط ديموغرافية طائفية ومذهبية موزعة على مناطق وجهات جاهزة للانقضاض أو لإعلان دويلات تنسجم مع الدستور الفيديرالي الذي فرضه الاحتلال خيارا وحيدا على الناس.

هذه الخرائط العراقية تتجاهلها الولايات المتحدة وتحاول إدارتها قدر الإمكان التعامل معها وكأنها تحصيل حاصل لواقع عراقي مهشم تقليديا، بقصد رفع المسئولية عن سياسة تقويضية تعمد «المحافظون الجدد» سلوكها منذ الغزو الهمجي لبلاد الرافدين. وهذا التظاهر بالعفة والبراءة يمكن ملاحظته من خلال متابعة تصرفات واتصالات وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس مع الاطراف المعنية بالكارثة وتداعياتها. فالوزيرة حاضرة في المؤتمر وكأنها مجرد مراقب أو متابع لأزمة صنعها غزاة قدموا إلى العراق من «الفضاء الخارجي» وهي تحاول أن تفهم ماذا يجري لتقديم المساعدة مثل غيرها من دول مجاورة أو بعيدة.

هذا التظاهر بحسن النية لا يعني أن الولايات المتحدة لا تتحمل مسئولية الكارثة التي اوقعها الاحتلال بالعراق. والتهرب من مواجهة عناصر الازمة لا يعفي واشنطن من مسئولية دفع كلفة التخريب والدمار والسرقة والنهب وكل تلك السياسات التي ارتكبتها عمدا بالتعاون والتكافل مع حكومات فاسدة وعميلة ومتعاملة معها أو مستفيدة من نتائج التحطيم والتقويض والتفكيك التي لجأت إليها منذ اليوم الأول للاحتلال.

رايس جاءت الى شرم الشيخ وحضرت جلسات المؤتمر بصفتها تمثل ذاك الطرف الأميركي من ضمن وفود تمثل 60 دولة ومنظمة دولية. وهذا «التواضع» المدروس يعني الكثير من السلبيات أقلها ان الولايات المتحدة ارتكبت الجريمة وتريد الآن من الدول الأخرى مساعدتها على التهرب من المسئولية وتدفيع العالم كلفة إعادة الإعمار وبناء الدولة البديلة ضمن خطة طريق تحتاج إلى خمس سنوات لإنجاحها.

التهرب من المسئولية يعتبر أقل السلبيات لأن الأكثر يرتبط بمدى نجاح «العهد الدولي» في تطبيق خريطة الطريق في مدة خمس سنوات. فالوثيقة الدولية مجرد اوراق وهي ليست الوحيدة التي تصدر بشأن ازمة ما ولا تلقى التجاوب أو الفشل. خطة احتواء الكارثة طموحة ومشروع إصلاح بقايا الدولة وإعادة ترميمها وإصلاحها تحتاج إلى أكثر من تلك التعهدات والالتزامات المالية.

نهب العراق وسرقته

العراق «دولة» غنية بالثروات والمال. وإنتاجها السنوي من مادة النفط وحدها يتجاوز 36 مليار دولار. والسؤال أين تذهب تلك المليارات من الدولارات سنويا ومن يسرقها ويوزعها على العملاء والمتعاملين والحكومات الفاسدة؟ إدارة الاحتلال تدعي البراءة والعفة وتطالب غيرها بدفع المال وتمويل خطة البناء والإعمار. ولكن الإدارة تتهرب من الاجابة عن السؤال. من يسرق المليارات سنويا ولماذا، إذا كانت الإدارة الأميركية طاهرة، لم تستخدم تلك الأموال الهائلة في بناء العراق وإعادة إعمار ما دمرته آلة الحرب.

العراق لا يحتاج إلى أموال لمساعدته فهو يملك ثروات هائلة تكفي لإعادة تعويمه وتسديد ديونه وقروضه وبناء الجسور والطرقات والمستشفيات والمعاهد والمدارس وتأمين حاجة الناس من تأمينات صحية واجتماعية ورعاية تربوية وغيرها من متطلبات حياتية كالدواء والماء والكهرباء.

إدارة الاحتلال التي نظمت الفوضى الأمنية وفتحت مداخل العراق ومخارجه لكل من يريد أن يختبر قوته في بلاد الرافدين ترفض حتى الآن وقف السرقة والنهب والقتل الطائفي والمذهبي العشوائي. وهي حتى الآن تراهن على أطراف متعاملة وحكومات فاسدة لاستكمال خطة شطب العراق من الخريطة السياسية وتمزيق هويته العربية ومنع نهوض الدولة من جديد حتى لا يعود هذا البلد الى موقعه التاريخي ومنظومته الاقليمية.

التظاهر بالضعف والتهرب من المسئولية ورمي الكارثة على دول الجوار العربية والمسلمة كلها عناصر تكشف بوضوح عن أن تداعيات الاحتلال تتجاوز تلك الاوراق وما تضمنته من حلول ومواقيت وردت في وثيقة «العهد الدولي».

ازمة العراق بلغت الآن طورها الأعلى ويرجح ان تستمر في «خطة طريق» تتجه بوضوح نحو مزيد من التفكك والتمزق والتبعثر. ومثل هكذا ازمة اقليمية كبرى لا يمكن معالجتها من خلال الطلب من دول الجوار و60 دولة ومنظمة عالمية بتقديم الأموال والمساعدات لحكومات فاسدة ومتعاملة مع الاحتلال. فالفاسد لا يمكن ان يتغير. ومن يسرق وينهب ويدمر بلاده ويشفط ثروة ارضه ويهرب أموال شعبه الى مصارف أجنبية في اوروبا وأميركا لايمكن الاعتماد عليه لإعادة إصلاح دولته وإعمار ما تهدم بالحرب من خلال استخدام اموال الجيران وتلك المساعدات الدولية من الأمم المتحدة ودول العالم.

الازمة في العراق ازمة احتلال اساسا وليست أزمة نقص في الأموال. وهذه الكارثة التي تشكلت برعاية أميركية وتخطيط مباشر من إدارة «المحافظين الجدد» تتحمل مسئولياتها التاريخية والمباشرة واشنطن. وكل ادعاءات العفة والبراءة لايمكن ان تغطي تلك التهلكة المدروسة التي برمجتها إدارة خططت منذ اليوم الأول تقويض الدولة وبعثرتها طائفيا ومذهبيا خدمة لأمن «إسرائيل» ولمنع العراق من توظيف ثروته لتجديد عناصر القوة التي تتكفل بتحقيق التوازن الداخلي وامتداداته الإقليمية.

أزمة العراق سياسية وليست مالية. واساس الكارثة هي تلك السياسة التقويضية التي اعتمدتها واشنطن لتدمير دولة عربية واخراجها من خريطة «الشرق الأوسط» ومن ثم رميها في وجه المنطقة ومطالبة دولها المساعدة أو التورط في كارثة يرجح ان تتواصل امتداداتها الداخلية والإقليمية في حال انسحبت الولايات المتحدة خلال سنة أو سنتين أو لم تنسحب. فالكارثة في معناها البشري والعمراني وقعت والآن تطلب واشنطن من دول الجوار والعالم المساعدة على حل مشكلة خططت سلفا لصنعها بهدف ارباك المنطقة وتوريطها في ازمات إقليمية تلهي دولها عن «إسرائيل» وما تمثله من مخاطر ضد الشعب الفلسطيني والشعوب العربية المحيطة به.

كارثة العراق لم تصل بعد الى حدها الأقصى من الانهيار. والازمة تحتاج الى تسويات تتجاوز النقاط والأطر التي تضمنتها وثيقة «العهد الدولي». العراق يحتاج الى ترميم سياسي وإعادة إعمار علاقاته الأهلية. وهذا النوع من الإصلاح والبناء والتسويات لا تريده واشنطن لأن خطتها التدميرية والتحطيمية والتقويضية لم تصل بعد الى فصلها الأخير.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1702 - الجمعة 04 مايو 2007م الموافق 16 ربيع الثاني 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً