رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير سيغادر مقر رئاسة الوزراء مستقيلا خلال الأسابيع المقبلة (ربما نهاية يونيو/ حزيران المقبل)، ولكنه سيخرج بهزيمة نفسية لم يتوقعها أبدا. فعندما وصل إلى رئاسة الوزراء قبل عشر سنوات تنفس البريطانيون الصعداء، لأنه قال إنه سيتبع سياسة «نظيفة»، وصفها بأنها ستكون «أبيض من اللون الأبيض»، وإنه سينظف العملية السياسية من الفضائح التي كانت قد أنهكت حزب المحافظين الذي حكم بريطانيا 18 عاما قبل وصول بلير. هذا على الجانب المحلي، وأما على الجانب الخارجي فقد وعد بأن يدخل التاريخ عبر اعتماد مبادئ أخلاقية في السياسة الخارجية، ووجه وزارة خارجيته آنذاك للنظر في سجل حقوق الإنسان للدول، واعتمادها كأحد الأسس للعلاقات معها. وفي بداية عهده تحقق شيء مما وعد، وحققت سياسته في سيراليون والبوسنة وكوسوفو بعض الانجازات.
ولكنه سرعان ما انقلب على عقبيه عندما ربط مصيره بمصير الرئيس الأميركي جورج بوش في غزوه للعراق العام 2003 وتخلى عن البعد الأخلاقي في السياسة الخارجية. دخل الحرب على أساس معلومات خاطئة وكاذبة، وضحى بسمعة بريطانيا بعد أن ثبت للجميع عجزه عن التأثير على بوش أو على نائب رئيسه ديك تشيني في كيفية التعامل مع الوضع العراقي بعد الاحتلال... وأصبحت أقواله مجالا للتندر بين البريطانيين وعنوانا لغضبهم. على المجال الداخلي، بدأت الفضائح ذاتها التي لاحقت حزب المحافظين تلاحقه، وحاليا تلاحق الشرطة عددا من أصدقائه ومسئوليه بتهمة «دفع الأموال من أجل الحصول على ألقاب رسمية» تؤهلهم للحصول على مناصب. وهكذا تنقلب الموجة عليه، وبعد أن كان ينظر إليه باحترام، سيخرج من مقر رئاسة الوزراء بعقاب لن ينساه طوال حياته. فالديمقراطية لديها وسائلها السلمية للعقاب، ولذلك فإن بلير بدأ ينظر يمنة ويسرة وإذا بأقرب المقربين (مثل وزير دفاعه السابق جيفري هون) يتهمه بانعدام الصدقية.
العقاب الديمقراطي أكثر قسوة من الأنواع الأخرى للعقاب، حتى إنه يعتقد أن طوني بلير سيستقيل من عضوية البرلمان (وليس فقط من رئاسة الوزراء) وسيهيم على وجهه في العالم باحثا عمن يستقبله لإلقاء محاضرات عن التفاهم بين الأديان والأمم، منطلقا بذلك من خلال مؤسسة جديدة ستحمل اسمه. ولكنه قد ينجح في الحصول على من يستمع إليه خارج بريطانيا، أما في داخلها فإنه لن يحصل على الناخبين ولن يحصل على المستمعين ولن يحصل على المتسامحين معه.
إن من يتصدى للعمل السياسي عليه أن يتحمل أخطاءه، والجميل في الديمقراطية أنها توفر وسيلة لمعاقبة السياسيين، بأسلوب سلمي من دون الحاجة إلى الأساليب التي نلحظها في المجتمعات التي تعيش تحت السطوة الدكتاتورية. إن العمل السياسي الديمقراطي يشترط على من يدخل فيه أن يتحمل نتيجة أعماله، وهذا بعكس ما نشاهده في المجتمعات التي لا تفهم منطق الديمقراطية، إذ يعشعش السياسيون في أماكنهم مهما ارتكبوا من أخطاء، وتتم التضحية بالأوطان من أجلهم.
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 1702 - الجمعة 04 مايو 2007م الموافق 16 ربيع الثاني 1428هـ