«فيما يمكن للمدينين و الجانحين أن يسافروا إلى خارج البلاد من دون وصي، فإن الكتب غير المسيئة لو أرادت أن تمشي خطوات فإنها لا يمكنها ذلك من دون سجّان مرئي فوق عناوينها».
جون ميلتون كراسه المعنون «Areopagitica».
يعود البعض بنشأة الصحافة إلى عهد البابليين، إذ كانت تمثل أرشيف الأحداث اليومية. وكذلك الحال في روما التي كانت تسجل «القوانين وقرارات مجلس الشيوخ والعقود والأحكام القضائية والأحداث ذات الأهمية التي تحدث فوق أراضي الإمبراطورية لتصل إلى الشعب ليطلع عليها». وكان للصحافة أن تمر بمراحل جمود وتذبذب حتى القرن الخامس عشر على يد الألماني «غوتنبيرغ» في مدينة ماينز بألمانيا إذ بدأ للصحافة عهدها الحقيقي والزاهر.
في العام 1465م كان للإنسانية أن تشهد ظهور أولى الصحف المطبوعة، فكان القرن السادس عشر بالتحديد هو قرن الصحافة الأول. وكان للقرنين السابع عشر والثامن عشر أن يكونا قرني «المهنة» وظهورعهد «الصحافة الدورية» في القارتين الأوروبية والأميركية.
إن المتتبع لتاريخ الصحافة لابد أن يرقب عن كثب تلك التحولات الجذرية التي أحدثتها في تاريخ الإنسانية الحديث. وعليه، كانت الإطلاقات العامة من شاكلة ان الصحافة الحرة هي دلالة المجتمع الديمقراطي الحر لم تكن مجرد «ترف» مجازي فيما يكتبه الإعلاميون والصحافيون من باب المغالاة بأهمية مهنتهم.
من لندن إلى الخليج
في بريطانيا، حيث بدأت جنبا إلى جنب عوالم الصحف اليومية في الظهور مع الثورة الفرنسية خرجت أولى الصحف اليومية في العالم الديلي كوران Daily Courant في العام 1702، أتت بعدها صحيفة التايمز Times في العام 1788، وفي العام 1805 ظهرت صحيفة الكوريية Courier، وفي العام 1814 استخدمت آلات الطباعة البخارية لطباعة صحيفة التايمز اللندنية.
عربيا، يذكر لنا أرشيف الصحافة العالمية أن دخول الصحافة إلى الجغرافيا العربية كان «مرافقا لحملة نابليون بونابرت على مصر العام 1798، حيث أصدرت في القاهرة صحيفتين باللغة الفرنسية. وفي العام 1828 أصدر محمد علي باشا صحيفة رسمية باسم جريدة الوقائع المصرية. وفي العام 1885 أصدر رزق الله حسون في استنبول جريدة عربية أهلية باسم مرآة الأحوال العربية. وفي بدايات القرن العشرين كثر عدد الصحف العربية وخصوصا في مصر فصدرت المؤيد واللواء والسياسة والبلاغ والجهاد. ومن الصحف القديمة والتي مازالت تصدر لحد الآن جريدة الأهرام والتي صدرت لأول مرة في العام 1875 ومنافستها جريدة الأخبارالتي صدرت العام 1944».
ثم توالت الصحف في باقي الأقطار العربية بالتوالي، صدرت في الجزائر صحيفة رسمية باللغة الفرنسية باسم المبشر العام 1847. ثم صدرت صحيفة كوكب إفريقيا العام 1907 وكانت أول جريدة عربية. وفي لبنان صدرت صحيفة «حديقة الأخبار» العام 1858. وصدرت في تونس صحيفة الرائد التونسي العام 1860. وصدرت في سورية صحيفة سورية العام 1865. وصدرت في ليبيا صحيفة طرابلس الغرب العام 1866. أما في العراق فقد صدرت أولى الصحف العام 1869. وفي المغرب العام 1889، وفي فلسطين صدرت صحيفة النفير العام 1908، وفي الأردن صدرت أول صحيفة في عمّان باسم الحق يعلو العام 1920. وفي الخليج فكان للمملكة العربية السعودية أن تصدر أول صحيفة رسمية في الخليج باسم صحيفة «القبلة» ثم غير اسمها إلى صحيفة «أم القرى» العام 1924، تلتها الكويت عبر صحيفة الكويت العام 1928 فالبحرين بصحيفة البحرين العام 1936.
وتعتبر الصحافة اليوم الضمانة الحقيقية لحرية التعبير في الدولة الحديثة، وتشدد الدساتير العقدية الحديثة على مضامين عدة تنتهي عند اعتبار الصحافة بوصفها وسيلة حرية التعبير الحقيقية. كما تشكل الصحافة الضمانة الأهم في تنزيع مصادر المعلومات للفرد، وتمثل مصدر المعلومات الذي يحدد من خلاله خياراته السياسية والاجتماعية والثقافية. وغالبا ما تمثل حرية الصحافة اليوم الامتحان الأقوى أمام دعاوى الإصلاح السياسي في دول العالم الثالث.
الصحافة ... الحق الإنساني الأصيل
ينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن: «لكل فرد الحق في حرية الرأي و التعبير، ويتضمن هذا الحق حرية تبني الآراء من دون أي تدخل والبحث عن وتسلم معلومات أو أفكار مهمة عن طريق أي وسيلة إعلامية بغض النظر عن أية حدود». وتحتاج هذه الرؤية إلى الوعاء التشريعي الذي يضمن لها التحقيق، وتختلف مضامين الالتزام والتطبيق لهذا «الحق» بطابع التقنيين في الدول. وغالبا ما تعمد الدول إلى تقييد هذه الفضاءات المفتوحة عبر إطلاق القوانين المقيدة للصحافة والصحافيين. وتأتي مثل هذه الإجراءات مضاعفة في بعض الأوقات بدواعي عدة وتحت ظروف حقيقية تارة ومصطنعة تارة أخرى.
وتعمد المنظمات الدولية لحرية الصحافة على مراقبة الحريات الصحافية في جميع البلدان حول العالم، ومن اهم هذه المنظمات الدولية «الإتحاد الدولي للصحافة»، ومنظمة «صحفيون بلا حدود» والتجمعات الإقليمية والقارية. وتأخذ هذه المنظمات بعين الاعتبار مهام الدفاع عن حريات الصحافة والصحافيين في استقاء المعلومات والنشر، وبما يتصل بدعم الصحافيين حول العالم في القضايا والموانع والحواجز والعراقيل التي تحاول بعض الحكومات وضعها أمامهم.
الصحافة... ومفهوم السلطة الرابعة
تعتبر الصحافة اليوم بمثابة «السلطة رابعة»، وذلك بتبعية «مقارنة الصحافة (وسائل الإعلام عموما) بفروع مونتيسيكيو الثلاثة للحكومة وهي: التشريعية و التنفيذية والقضائية. وانتشر إطلاق مسمى السلطة الرابعة عبر الصحافة بعد تصريح لأحد أعضاء مجلس النواب الأميركي وهو إدموند بروك حين قال في إحدى خطبه السياسية داخل مجلس النواب: ثلاث سلطات تجتمع هنا تحت سقف في البرلمان، ولكن هناك في قاعة المراسلين تجلس السلطة الرابعة وهي أهم منكم جميعا».
ويأتي الربط بين تطور الإعلام والتطور السياسي في إتساق مباشر. إذ يعتبر تطور الإعلام ضرورة تنموية لتطور نظم الحكم والإدارة في الدولة. يقول فرد. س. سايبرت في مقالة بعنوان النظرية الليبرالية لحرية الصحافة: «لفهم المبادئ التي تحكم الصحافة في ظل الحكومة الديمقراطية، ينبغي للمرء أن يفهم فلسفة الليبرالية الأساسية والتي تطورت طوال الفترة بين القرن السابع عشر و القرن التاسع عشر». ومن هنا، تذهب الأدبيات السياسية والاجتماعية إلى اعتبار حرية التعبير عبر الصحافة حقا فرديا وفق القانون الطبيعي لا حقا تمنحه الدولة عن رضا.
«مراسلون بلا حدود»
تضع منظمة مراسلون بلا حدود شروطا عامة تطبيقية تقوم من خلالها بتقييم مستويات الحرية للصحافة في جميع بلدان العالم، ووفق هذه الشروط تصدر المنظمة تقريرها السنوي. وتذكر المنظمة أنها تستند في عملية التقييم على «نتائج الاستبيانات المرسلة إلى الصحفيين بالإضافة إلى بحوث الباحثين المختصين و القانونيين والنشطاء في مجال حقوق الإنسان. ويتضمن الاستبيان أسئلة حول الهجمات المباشرة على الصحفيين ووسائل الإعلام بالإضافة إلى مصادر الضغط الأخرى على حرية الصحافة مثل الضغط على الصحفيين من قبل جماعات غير حكومية».
ويذكر أرشيف «مراسلون بلا حدود» أن فنلندا، آيسلندا، هولندا، النرويج. هي أولى الدول التي تتمتع بحرية صحافة نموذجية وذلك وفق تقرير المنظمة للعام 2003، وفي العام 2004 احتلت إلى جانب الدول المذكورة دول الدنمارك وايرلندا وسلوفاكيا وسويسرا أعلى قائمة الدول ذات الصحافة الحرة وتلتها نيوزلندا ولاتفيا. أما الدول الأقل في مستوى حرية الصحافة 2006 فقد تقدمتها كوريا الشمالية لتليها كوبا و بورما وتركمانستان و أريتيريا والصين و فيتنام و النيبال والسعودية وإيران.
ووفقا لتقارير «مراسلون بلا حدود» فإن «ثلث سكان العالم يعيشون في بلدان تنعدم فيها حرية الصحافة. والغالبية تعيش في دول ليس فيها نظام ديمقراطي أو حيث توجد عيوب خطيرة في العملية الديمقراطية. تعتبر حرية الصحافة مفهوما شديد الإشكالية لغالبية أنظمة الحكم غير الديمقراطية، ولاسيما ان التحكم بالوصول إلى المعلومات في العصر الحديث يعتبر أمرا حيويا لبقاء معظم الحكومات غير الديمقراطية ويصاحبها من أنظمة تحكم وجهاز أمني».
العدد 1700 - الأربعاء 02 مايو 2007م الموافق 14 ربيع الثاني 1428هـ