غريب أمر المبادرة العربية للسلام، فقد ولدت في أجواء اشتداد العدوان الصهيوكي (الصهيوني - الأميركي) على فلسطين، وخصوصا الزيارة الاستفزازية التي قام بها الإرهابي آرئيل شارون للحرم القدسي، التي أدت إلى تفجر الغضب الشعبي، ثم اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية.
في ظل تلك الأجواء ولدت المبادرة العربية، وأغرب ما في الأمر أنها ولدت في لبنان البلد العربي الوحيد الذي حرر نفسه من براثن الاحتلال الصهيوني من دون مفاوضات ومن دون شروط، بعد أن أذاقت المقاومة الإسلامية بقيادة حزب الله، الجيش الصهيوني مرارة الهزيمة في مايو/ أيار 2000.
عُقِدَت قمة بيروت العربية في مارس/ آذار 2002، أي بعد انتصار المقاومة في لبنان بأقل من عامين، فقدمتْ المبادرةَ العربيةَ للسلام التي رفضها الكيان الصهيوني فورا، ولم ترحب بها الإدارة الأميركية، ولم تعرها الدول الأوروبية أي انتباه، وبقيت هذه المبادرة مجمدة في أدراج الجامعة العربية حتى جاء الاجتياح الإسرائيلي لقطاع غزة في مطلع العام 2006، فبلغ إحراج الدول العربية مداه بعد فشل كل الاتصالات والجهود لوقف الاعتداءات الصهيونية التي مسحت أحياء بكاملها وقتلت وشردت الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني.
ولم يكن أمام الجامعة العربية - التي عقدت الكثير من اجتماعات وزارة الخارجية، واستنهضت كل علاقتها العالمية لفعل شيء، تنشف بها عرق الذل الذي لحق بجباه المسئولين العرب - سوى إعلان شهادة وفاة المبادرة العربية للسلام على لسان أمينها العام عمرو موسى.
وحين شنت القوات الصهيونية هجومها الكاسح على جنوب لبنان في يوليو/ تموز 2006، كان الخبراء الاستراتيجيون الصهيونيون يتوقعون انتصارا سريعا، يكتسحون فيه أقوى معاقل الممانعة العربية المتمثلة في المقاومة الإسلامية في لبنان بقيادة حزب الله، إلا أن كل تحليلاتهم وخططهم الاستراتيجية والعسكرية المدعومة بالأقمار الاصطناعية وأحدث تكنولوجيا الاتصالات وشبكات التجسس والاستخبارات قد أصيبت بخيبة أمل شديدة، وتكسرت كل الآمال الصهيونية على صخرة الصمود اللبنانية.
وبدلا من أن يكون انتصار يوليو بداية لعصر الاستنهاض والعزة والكرامة، نشطت بعض التيارات السياسية العربية ولاسيما على الساحة اللبنانية في سبيل تفريغ الانتصار من مضمونه وتحويله إلى هزيمة، يجب أن تدفع المقاومة سلاحها ثمنا له، واشتدت الهجمة بقيادات التحالف الصهيوني الذي بدأ يستفز أصدقاءه في أوروبا ومجلس الأمن لفرض الوصاية الأممية على لبنان، في موازاة الحصار الشديد الذي أُحكِم على الحكومة الفلسطينية بقيادة «حماس» التي رفضت الاستسلام للمشروع الصهيوني وتقديم اعتراف مجاني بـ «إسرائيل»، وهكذا جاءت القوات الدولية إلى لبنان وبدأت معركة سياسية لكسر عظم المقاومة ونزع سلاحها الذي فشلت في إسكاته القوات الصهيونية على مدى أكثر من 33 يوما برا وبحرا وجوا.
وفجأة ومن دون مقدمات منطقية بدأ الحديث مجددا عن المبادرة العربية للسلام، وأعيد تلميع المبادرة وضخت في شرايينها الكثير من الدماء، وأقيم لها الكثير من عمليات التنفس الاصطناعي، فإذا نحن بها تهب واقفة على قدميها بعد أن تم إيقاظها من سباتها العميق.
ولعل الملاحظة المهم تسجيلها في هذه اللحظة التاريخية هي أن المبادرة العربية للسلام قد تحولت إلى ورقة توت سحرية عالمية، وأن دورها لم يعد مقتصرا على ستر عورة الأنظمة العربية العاجزة، بل تعداه إلى مسئولية أكبر تتمثل في ستر عورة التحالف الصهيوني الذي كشفت زيفه حرب يوليو 2006.
وإذا كان صمود المقاومة الإسلامية بقيادة حزب الله في لبنان وصمود الفصائل الفلسطينية في وجه القوات الصهيونية، هما من وفَّر الفرصة لإدخال المبادرة العربية للسلام غرفة الإنعاش، حتى باتت في كامل قواها العقلية والصحية، فقدمت نفسها بشكل جميل وأنيق تمكن من لفت انتباه سيد البيت الأبيض وكبار المسئولين الصهيونيين، حتى راح رئيس وزراء العدو الصهيوني وقبله نائبه بيريز ووزيرة خارجيته سلفيني والكثير من رموز التحالف الصهيوني يكيلون المديح لها ويعتبرونها أرضية مناسبة لحل كل مشكلات الشرق الأوسط، فإن الأجدى نفعا هو إعادة الفضل إلى أصحابه.
وبصريح العبارة نقول: إن الصهاينة ما كانوا ليستمعوا للمبادرة العربية للسلام لولا صمود المقاومة الإسلامية بقيادة حزب الله في لبنان وقيادة «حماس» و «الجهاد» في فلسطين، ومعنى ذلك أن المقاومة الإسلامية اليوم هي أقوى ورقة يمتلكها العرب، وهم مطالبون بعدم التفريط بها مهما كانت الظروف والضغوط.
كلمة أخيرة. إن صمود المقاومة في لبنان وفلسطين هو الذي وفَّر الأجواء المناسبة لطرح المبادرة العربية للسلام، وهو الذي هيأ الفرصة لإعادة إحيائها من جديد، ومهما اختلفنا على الموقف من المقاومة أو مبادرة السلام، فإن الجميع اليوم مطالب بحماية المقاومة، حتى أصحاب المبادرة الذين سيجدون مبادرتهم بلا قيمة بمجرد أن تسكت بندقية المقاومة!
إقرأ أيضا لـ "محمد حسن العرادي"العدد 1695 - الجمعة 27 أبريل 2007م الموافق 09 ربيع الثاني 1428هـ