يمكن أن نقول إننا بإزاء رعونة إعلامية عابثة غير مستحقة وطنيا إذا ما أريد توخي الجور، والابتعاد عن إصدار الأحكام المسبقة، ورصد علامات حسن النية في بعض السلوكيات والاتجاهات الإعلامية المحلية السلبية، والتي تعمل على زيادة تعكير الأجواء، وإثارة البلبل وتشويش العقول.
فلم تعد تكفينا تلك التشوهات البنيوية السياسية والاقتصادية والمساعي المشبوهة في سعيها لاستثارة النعرة الطائفية وتسعيرها على حساب صحة الوطن الواحد الذي يحضن جميع أبنائه كما قيل ذات مرة، حتى يخرج إلينا إعلام يعيش أحلك فترات عمره، وأردأ سنوات إنتاجيته، وأبعدها تمايزا نوعيا عن فضائيات الدرجة الرابعة، ويوشك أن يلعب دورا تحريضيا نأمل أن تكون بكرة غير مقصودة، لتبقى إذا رعونة طيبة «خبر خير»! ونذكر من بين تلك السلوكيات والتصرفات الإعلامية الطائشة دأب فضائية العائلة العربية المفككة في زمن تحلل الأخلاق والقيم على تناول الموضوعات الساخنة بما فيها أحداث العنف والشغب والتخريب الأخيرة التي تقع في مختلف مناطق البحرين، وما يطفو في سطحها الأعلى من أعمال حرق إطارات وتكسير مرافق عامة، ورمي زجاجات حارقة وعنف متبادل مع الأجهزة الأمنية، يتلوه إطلاق رصاصات مطاطية وقنابل مسيلة للدموع على المخربين في المناطق التي تجري فيها الاصطدامات، وهي جميعا أفعال نكراء وتصرفات مستنكرة ومدانة مهما كانت المطالب التي يرفعها محرضوها ومنفذوها سواسية!
ولكن كيف تصرف إعلامنا «التوعوي» و«العاقل» الذي يفقه سر مهنته، ويخبر أمر فتنتها حيال مثل هذه القضية في حوارياته المعلنة؟!
هل يدرك أصلا القائمون على برامجه مقتضيات الحوار البناء، وأهدافه الإعلامية العملية الحقيقية؟!
أم أن القصد يبتغي إضاعة فرص الحوار العاقل والمتأدب الرامي لتناول القضية من شتى أبعادها لحساب مرافعات واستعراضات ولوحات الإدانة والاستنكار والتلبية للنداء الفوقي والتصريح الأبوي، فيضيع المضمون ويبتذل الشكل والمظهر؟!
وتتم استضافة قالب «وعظي» و«استنكاري» ذي إعداد وتجهيز مسبق كما يبدو لتناول أمثال هذه المواضيع، فمثل هذا القالب مطعم ومطهم بوجوه معروفة سلفا بتباينها الحاد ليس سياسيا مع أطراف وأصحاب القضية، وإنما حتى مذهبيا واجتماعيا، إلى جانب تعددية عناصر وشخصيات أخرى من جوانب متعددة مغمورة ومتدنية المستوى والمنسوب الجماهيري، عسى أن تدلوا بدلوها بشأن هذه القضية، وتطلق أحكامها المحبوكة آليا وفق قنوات وقوالب وعي فقهي وثقافي وسياسي لا يحظَى بقبول واعتراف معني، ولا تلزم أصحاب وأطراف القضية في شيء، ولا تحقق سوى الاستفزاز العلني، وقلب ظاهري متذاكٍ لبعض الحقائق، وإطلاق التعميمات والتزويقات المبتذلة التي لا تخدم احد في القضية سوى من له مصلحة في تعويم هذه القضايا!
في حين تغيب عن الحوارية الرتيبة عناصر وأطراف داخلة ومتورطة في القضية كان من الممكن لإشراكها زيادة فاعلية الحوار، وفتح الكثير من القنوات الممكنة للتعرف على مجمل الآراء الأخرى التي قد تكون مختلفة وخارجة عن النسق الرسمي المفروض آنفا بشكل يفتقد خفة اليد الدعائية والذوق الإعلامي الفني!
فما الأثر والعائد المتوقع تحصيله لصالح القضية مثلا من استضافة شخصية مخطمة حكوميا منسوبة للتيار «السلفي»، وتشتغل في سلك وظيفي يحرم مع النبذ الاشتغال السياسي وحتى التجاري، وذلك للتحدث واستعراض عضلات الموالاة حول قضية محلية ساخنة تتفجر تفاعلاتها على أرضية سياسية معارضة، وفي وسط اجتماعي شيعي مذهبي لديه حساسية تاريخية فائقة من مثل هذا التناول ذاتا وموضوعا؟!
بل انه ومن أجل تطعيم هذه الحوارية وإعطائها مسحة من الماكياج الموضوعي الاصطناعي تتم على سبيل المثال استضافة شخصيات أخرى محسوبة على الطائفة الشيعية الكريمة إلا أنها أيضا رسمية التوجه سياسياُ ومغمورة، عسى أن تمثل وجهة النظر الأخرى ذاتها باختلاف في الدرجة فقط، وهو ما أثبت فشل الإعلام ليس فقط في تناول القضية واحترام مقتضيات الحوار، وتحقيق الأهداف التوعية والأولويات المتوقع تحقيقها من الأداء الإعلامي المهني، أو حتى تجميع وتوفيق سائر الأطراف والعناصر الداخلة في صناعة القضية، والسعي لاستقطابها للمشاركة في مثل هذه البرامج كما تقتضي أبسط الأسس المهنية الإعلامية!
بل وتردى أيضا مثل هذا النوع المحبط من الإعلام بعيدا عن أعتاب الدخول في أية تنافسية إعلامية محتملة مع سائر القنوات الأخرى حول تناول قضايا شبيهة، وهو بالتالي لا يمكن إدراكه واعتباره إلا بصفته مؤشرا على مدى التجويف الحاصل حرياتيا وحتى إصلاحيا في المستوى المحلي، حيث ما زالت الرواية الواحدة الرسمية سيدة الموقف، ولكنها إضافة إلى أحاديتها في الساحة فهي لا تجيد أبدا الترويج عن نفسها والتمييز بين الغث والجيد، والرديء والأردأ، أو حتى النهوض بمفاتنها الذابلة وسط فضاء إعلامي ازدحمت فيه المفاتن الفضائية العابرة للمحيطات والبحار والرواسي والأنهار حد اختناق المشاهد والمطلع!
بل لم يتوقف الأمر لدى تلك الرعونة الإعلامية عند اختيار شخصيات لا تحظى بتجاوب أو قبول شعبي ووطني يوازي حجم القضايا الملقاة لتناولها، والتي تفوق حجمها بأضعاف مضاعفة، فتزيد الأمور استفزازية وتوترا عن ما هي عليه بتلك الرعونة المحبطة، والتي تتمدد آليا لتشمل تشغيل سائر خدمات التلميع الاصطناعية المبتذلة والمبذولة مجانا لعدد من الأفراد المغمورين والمعدمين سياسيا وفكريا، وذلك بهدف التوجيه والتحريك صوب تجسيد وإبراز وجهات نظر مختومة رسميا على اعتبار أنها تمثل توجهات شعبية ومجتمعية عامة، ومثل تلك الألاعيب المربوطة بأكتاف جماعات «الغونغو» لم تعد تخفى على أحد بعد أن افتضح أمر أصحابها، وتفسخ تورطهم في قضايا مخزية ومثيرة للجدل، وبالتالي اضمحلت مصداقيتها وتضررت سمعتها بشكل ملحوظ، ولم يعد من المجدي يا أصحاب إبرازها إعلاميا مرة أخرى فداء لما تسرفون من أموال!
ومع ذلك تصر القشرة الإعلامية ذاتها، والتي لا تصلح للإنقاذ الوطني والتعفف الحضاري، بل هي للتوتير والتعمية الفاشلة، على استضافة ذات الشخصيات والوجوه الملمعة، ومن فوهة ذات الإناء والوعاء البرامجي المثلومة، بل إنها لا تتورع عن إلصاق مسميات زاهية بأحرف بارزة لهؤلاء المنتشلون إعلاميا من لوث سواحل المضاربات السياسية الجارفة إياهم كأداتي رهان محتملتين، وذلك رغم كون تلك الألقاب والمسميات كــ «الناشط السياسي» و«الباحث السياسي» وغيرها إن لم تكن تناسب حجم هاتين الرهينتين، فإنها تخدع وتضلل المشاهد المطلع ببلادة غير مراوغة أبدا لكونها تنسب اختصاصات واطلاعات معينة لغير أصحابها بالمرة! فمثلا هناك من هو من الأليق لاختصاصه ووظيفته أن يكون ناشطا ومحللا كهربائيا بدلا من أن ينسب إلى حقل النشاط والاشتغال والتحليل السياسي، وآخر من الأصوب أن يكون كائنا «غوغائيا»، أو ناشطا اتصالاتيا واستخباريا عوضا عن رفعه وتعليقه إلى الأعلى بمسمى «ناشط اجتماعي» أو «ناشط سياسي» أيضا، لذلك هل يحترم إعلامنا مرة أخرى ذكاء المشاهدين الذين سرعان ما ينصرفوا عنه عادة إلى قنوات إعلامية أخرى في عصر الثورة الاتصالاتية والإلكترونية والمعرفية؟!
وهل يقدر أفق إمكاناته الحقيقية، ويدرك ولو شيئا من ذخيرة تاريخه القريب النشأة، حينما يستضيف شخصية دينية للوعظ والإرشاد والتوعية بهدف إيصال رسالة سياسية محددة، تخدم أجندة رسمية معينة تجاه هذا الشعب، وهذه الشخصية لم يغب عن أي عاقل بأنها أضحت دراميا «طايحة» السوق سياسيا وشرعيا بعكس الماضي، وبالتالي ستفشل حتما في مهمتها رغما عن أنف السفاهة في البذل والإنفاق الإعلامي الرسمي دونما جدوى!!
بل إن ما هو مضحك حقيقة هو في كون هذه الشخصية الدعوية «المودرن»، وأثناء تقديمها لبرنامجها وحلقتها الوعظية والإرشادية، لا تكل ولا تمل من الاستعراض والمباهاة التمثيلية غير المتقنة لما تحوزه من ساعات ومجوهرات وحلل فاخرة إلى حد يتوه فيه المشاهد أو المواطن الفقير بين ما يستعرضه هذا الواعظ السلطوي الوسيم أمامه من هداية أو هدايا، وبين بريق التفضل الملوكي ونور الذكر الملكوتي.
فهل يدرك بعد ذلك إعلامنا وسلطته مدى الإسفاف الحاصل في رعونته إن صحت النية، وهي الأهم حتما في جميع الأمور والقضايا الوطنية ولو من باب التسليم والرجاء إذا ما جرت الرياح الطائفية يوما بما لا تشتهي السفن الوطنية؟!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1695 - الجمعة 27 أبريل 2007م الموافق 09 ربيع الثاني 1428هـ