لا ريب في اشتمال التشكل الأول للأديان على مضامين تعنى بتفسير الشأن الإنساني، وذلك أمر بارز في غالبية السور المكية، ففي سورة الانشقاق «يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه» (الإنشقاق: 6) وفي سورة الإنسان «إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا، إنّا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا» (الإنسان: 2، 3).
بل من الواضح في المضامين القرآنية اعتبار الإنسان محورا للخلق العاقل «وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم» (البقرة: 34) وكذلك «ولقد كرّمنا بني آدم» (الإسراء: 70) ولكن هل يعني ذلك إمكان أن ينتج النص الديني ما يساوق المفهوم الفلسفي الحديث لحقوق الإنسان؟ مع إن مفهوم حق الإنسان يختلف بحسب النظرة الى الإنسان ذاته من خلال قياس نسبته الى المبدأ والمعاد = نسبة الإنسان الى الدين وبالتبع لذلك نسبة الإنسان الى الحياة، فماذا يعني مثلا حق الإنسان في اختيار الدين؟ إذ هو قابل للفهم على مستويات عدة أولها عدم قابلية الاعتقاد لأن يكون قهريا لأنه أمر قلبي في داخل النفس ولا يخضع للإكراه ولكنه لا ينفيه بالإضافة الى السلوك الخارجي.
والمستوى الآخر لحرية الدين هو إنه من اختار دينا من الأديان فذلك لا يسلبه حق الحياة = نفي القتل بدافع الاختلاف في الدين. والمستوى الثالث هو إن اختيار الدين لا يؤثر على حقوق الإنسان السياسية كالانتخاب والاعتراض ولا على حقوقه المدنية كالزواج والديات والمواريث، فمن اللازم أن نعرف أية المستويات التي يمكن أن تندرج تحت قول الله تعالى «لا إكراه في الدين» (البقرة: 256)، وهل المستوى الثالث ممكن في ظل الدولة ذات الهوية الدينية؟ فأقل ما تقتضيه الهوية الدينية هو التميز الإعلامي للدين الذي يشكل أساس نظامها وإلا كان ذلك نفيا للهوية وسلبا لخصوصيتها، كما إن الدولة القومية تقتضي تمييزا إعلاميا لصالح اللغة أو العرق، وأيضا فإن عنوان التسامح تندرج تحته مصاديق متفاوتة فتارة يقصد به الصبر على الآخر لصالح الذات من جلب نفع أو دفع ضرر «ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبّوا الله عدوا بغير علم» (الأنعام: 108) أو يراد به تسامح القوي مع الضعيف في سياق الشفقة والرحمة «والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس» (آل عمران: 134) أو يراد به في مرتبة ثالثة الاعتراف بحق الآخر على أساس التكافؤ وفي سياق تعددية حقيقية تنطلق من التساوي في الإنسانية، فهذه مراتب مختلفة المضمون والمنطلقات ويكون بعضها ممكنا في سياق ثقافي معين لكنه مستحيل وغير ممكن التعقل في سياق ثقافي آخر.
ولذلك فلا يمكن الحصول على تعريف واحد ومحدد لحق الإنسان من خلال أطر اجتماعية وسياسية مختلفة، فمن الخطأ محاكمة نظام اجتماعي انطلاقا من أسس نظام آخر، وهذا يبرز إشكالية في قضية تفاهم الحضارات والأديان، فهذه الإشكالية تبدو اليوم بكل وضوح في الجدل الدائر بين التنظيرين الإسلامي والغربي وكذلك في تفهم الشرق لمبادئ الغرب وتفهم الغرب لمبادئ الشرق، فالكثير من المستشرقين ينقد ما اشتمل عليه تاريخ النبي محمد (ص) من ممارسات لا ترتضيها الفلسفة الحديثة لحق الإنسان نظير أحكام الأسْر والغنيمة، ولكن ذلك النقد يكشف عن قصور خطير في نمط التفكير فإن السلوك النبوي سيكون مقبولا جدا بل هو الأرقى إذا نظرنا إليه في أطره وحواضنه الاجتماعية والتي لا تحتمل غير ذلك السلوك، فماذا لو كان الوضع التاريخي المعاصر للرسالة مختلفا وكانت أطياف المجتمع يومذاك (المسلمون والمشركون واليهود وغيرهم) قد تفاعلت مع دعوة النبي بشكل مختلف؟ أو كان مستوى الوعي الثقافي والإنساني لدى تلك المجتمعات أكثر تقدما؟ فلا محالة سينعكس ذلك على سيرة النبي، بمعنى أنه سوف يعطي مجالا أوسع لتجلي المعاني الرفيعة في الوحي الإلهي وفي ذات النبي نفسه، وهذا يلتقي بما يقرره العرفاء من أن تجليات المقامات الربوبية والنبوية بحسب قابلية عالم الإمكان بكل تقلباته وتحولاته، وقد قال الله تعالى «يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن» (الرحمن: 29) أي بحسب مخلوقاته لا بحسبه هو فإنه ذات أزلية لا تعرضها الحركة ولا التغير، ولذلك قال الإمام الرازي في تفسير الآية: «هذا - أي كل يوم هو في شان - بالنسبة الى الخلق... والله تعالى لا يشغله شأن عن شأن أصلا لكن أسبابه تمنع أسبابا أخر».
فالمعنى الإنساني في الدين وإن كان مطلقا بحسب المبدأ «شأن الله = الفاعل» إلا إنه لا مناص عن لحاظه مقيدا ومؤطرا بأبعاد لها انتهاء وتحول حسب إمكانات التلقي «شأن الإنسان = المنفعل» ولابد من الاعتراف بأن هذا الكلام يعبّر عن القبول الى حد ما بمقولة نسبية الأخلاق «وليس بالنحو المطلق»، فما هو مستساغ في حقبة زمكانية يكون غير قابل للقبول في حقبة أخرى، وأظن أنه المقصود بما نقل عن الشيخ الرئيس ابن سينا، وهو إن تطبيقات حسن العدل وقبح الظلم من قبيل التأديبات الصلاحية أي ما يكتسب من العرف والعادة الجارية وليس أمرا يكتسبه الفرد بالفطرة الأولية، والعرف والعادة أمران نسبيان لهما أبعاد وحركة، وعلى هذا الأساس فقد لا تكون أمام المنظر الديني أو الاجتماعي في كثير من الأحيان خيارات واسعة أمام سياقات الواقع حتى نسأل لماذا اختار هذا النظام من دون ذاك، وهذه آلية مهمة نحن في أمس الحاجة إليها عندما ندرس السيرة النبوية بشقيها القولي والفعلي، فالسلوك العام للأنبياء لا يتحرك في إطار الإعجاز وخرق قانون الطبيعة «وأما الإعجاز فيتم في سياقات استثنائية» قال الله تعالى «ادع الى سبيل ربك بالحكمة» (النحل: 125) والمقصود بالحكمة هو مراعاة مدى قابلية المتلقي كما جاء في الحديث الشريف «أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم».
وعلى هذا التأسيس لا يمكن تعقل حرية الأديان بمرتبته الثالثة «بمنطلق التعددية الحقيقية» في مراحل تاريخية متقدمة، وهذا يكشف عن إشكالية المطالبة بالعودة الى ما يسمى بالعصر الكلاسيكي (القرون الخمسة الأولى من تاريخ الإسلام) بمنطلق اعتبارها نموذجا، فمن الخطأ النظر الى قطعة زمنية من تاريخ الحضارة الدينية على أساس أنها نموذج تجب محاكاته والركون إليه كأساس مرجعي، بل من اللازم أن نعالج مشكلات الوضع الديني في الوقت الحاضر انطلاقا من تفهم السياقات المعاصرة لهذا الوضع ومحاولة تفكيكها وليس من خلال أنمذجة العصر الكلاسيكي كما يكرر ذلك المفكر الجزائري محمد أركون في عدة من كتبه التي قام بترجمتها الى العربية المفكر هاشم صالح، هذا مع إن وجود قدر من التعددية والعقلنة في تلك الحقبة من التاريخ الإسلامي لا يمكن نسبتها الى تنظيرات دينية ذات ديناميكية عالية حتى يحلم دعاة الأنسنة بالتشبث بها بدافع المصالحة بين الاجتهاد الديني والأنسنة، بل كانت نتيجة دوافع سياسية لدى السلطات التي آثرت أن تكون هي المسيطرة على الفقهاء والمتكلمين وأنتج ذلك حالة من العلمنة غير منظر لها دينيا ولا فلسفيا فلذلك وجدناها قد اختفت بمجرد انتهاء دوافعها السياسية.
وختاما فإنه لا يمكن اعتبار دعوات الأنسنة انتصارا لبعض نماذج الاجتهاد الديني بل هي في حقيقتها نزعات تجاه الخروج عن الاجتهاد الديني برمته.
إقرأ أيضا لـ "الشيخ حميد المبارك "العدد 1694 - الخميس 26 أبريل 2007م الموافق 08 ربيع الثاني 1428هـ