اللقاء التمهيدي الثنائي الذي عقد بين الممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي خافير سولانا وكبير المفاوضين الإيرانيين في الملف النووي علي لاريجاني أمس في انقرة يعتبر خطوة في سياق حوار طويل جرى خلال فترة سنة بين طهران والغرب لبحث مسألة التخصيب ومنع انزلاق المنطقة نحو مواجهة عسكرية.
اللقاء لن يكون الأخير إذ ستعقبه حوارات أخرى تتناول ملفات تتصل بالنقاط الساخنة في المنطقة وتحديدا تلك المتعلقة بتداعيات احتلال العراق وأزمة لبنان وموضوع الهدنة القلقة في فلسطين.
اللقاءات هذه التي عقدت في أكثر من مكان ويرجح أن تستمر مدة أسبوعين في شرم الشيخ وبغداد وبروكسيل ستمهد الطريق لوضع صياغات شبه نهائية للقرارات التي ينتظر ان تصدر عن مجلس الأمن بشأن الملف النووي وما يثيره من اسئلة وقراءات غير متوافقة عن طبيعته واهدافه.
إيران أكدت مرارا أنها لم تخالف الشرعية الدولية وأن المعاهدات والمواثيق تعطيها حق البحث عن مصادر بديلة للطاقة السلمية. ولهذا الاعتبار القانوني ترى طهران ان حقها في تنويع مصادر الطاقة كفلته المؤسسات الدولية ولذلك ستواصل مشروع التخصيب حتى لو اتجه مجلس الأمن الى إصدار مزيد من القرارات التي تنص على عقوبات أو تهدد بفرض رقابة على حركة المال والاستثمار والاستيراد والتصدير.
الاتحاد الأوروبي مرتبك في مواقفه. فهو من جانب لا يمانع ان تبحث طهران عن مصادر بديلة للطاقة ومن جانب آخر يشترط مجموعة بنود تضبط المشروع تحت سقف دولي يضمن في المستقبل عدم خروج الإنتاج على تلك الأهداف السلمية المعلنة. فالاتحاد لا يعارض المشروع من الجانب الحقوقي وانما من رؤية أخرى تتصل بالمستقبل وما يحمله من احتمالات غير محسوبة.
الذرائع الأوروبية التي تعتمد سلسلة فرضيات مبنية على القلق الأمني والخوف من المستقبل شكلت مادة سياسية استخدمتها الإدارة الأميركية لإثارة موجة من الهلع والمخاوف الدولية والإقليمية من مشروع غير منجز حتى الآن ويحتاج الى سنوات لإنجازه.
الى الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة لعبت «إسرائيل» دور المحرك لإثارة الأسئلة بشأن الملف النووي مستفيدة من تلك التصريحات النارية التي اطلقها الرئيس الإيراني عن مصير الدولة العبرية وموضوع الهولوكست (المحرقة) الذي ارتكبته ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية. فتل أبيب استخدمت نفوذها وعلاقاتها وتأثيراتها السياسية والمعنوية والإعلامية لتغذية الأنشطة الدولية المضادة لإيران وكل دولة عربية ومسلمة تفكر في إنتاج طاقة بديلة عن الغاز والنفط.
الدولة العبرية التي كانت السباقة في نقل السباق النووي الى منطقة «الشرق الأوسط» منذ ستينات القرن الماضي ترى أنها الطرف الوحيد الذي يحق له امتلاك مثل هذا الامتياز لاعتبارات أمنية وسيكولوجية تتصل بمساحتها الجغرافية وموقعها الاستراتيجي وحجمها الديموغرافي.
المشروع النووي الإسرائيلي الذي نجحت حكومات تل ابيب في تركيبه في صحراء النقب بإشراف نائب رئيس الحكومة الحالي شمعون بيريز تأسس اصلا لاعتبارات أمنية وعسكرية وتحت ذريعة سد النقص الذي تعاني منه الدولة على المستويين الجغرافي والسكاني. ولهذه الاعتبارات ترى تل ابيب ان اي محاولة عربية وإسلامية للسير في هذا الاتجاه لا يمكن ان تكون سلمية وانما تخفي اجندة سرية تهدف الى تقويض الدولة العبرية.وانطلاقا من النوايا تحاكم تل ابيب الدول العربية والمسلمة وتحاسبها على اساس نظرية الشك في اعتبار ان تلك المشروعات الوهمية تشبه مشروعها «السري» الذي أسسته للحماية الأمنية والتخويف النفسي والتهويل بالسلاح النووي حتى لا تتعرض حدودها أو وجودها للخطر. وبناء على هذه الفرضيات تضغط «إسرائيل» على الدول الكبرى الا تتهاون في الموضوع وإلا اضطرت الى اتخاذ التدابير التي تتكفل بحماية أمنها أو تعريض وجودها للخطر. وبسبب الملاحقة الإسرائيلية للمشروع الإيراني نجحت تل ابيب في تجميع الكثير من الأوراق واستخدمتها في الهيئات والمؤسسات الدولية لقطع الطريق على طهران واعتراض خططها من أجل إنشاء محطات وقود نووية تنتج الطاقة الكهربائية.
الذرائع الإيرانية
مقابل الحملة الإسرائيلية المسعورة لجأت طهران الى توضيح نقاط الاختلاف والشكوك المثارة بشأن مشروعها. فهي اكدت على سلمية الخطة وشفافيتها فأقدمت على توقيع كل المعاهدات والمواثيق الدولية التي تشترط المراقبة ونصب الكاميرات والتفتيش الدائم للتأكد من صدق النيات. بينما تل ابيب ترفض التوقيع على المعاهدات والمواثيق وتمنع وضع مؤسساتها تحت المراقبة ولا تقبل بوجود كاميرات أو هيئات تفتيش وتطلق من فترة الى أخرى معلومات متضاربة وغير واضحة بشأن امتلاكها للسلاح النووي.
كذلك كشفت إيران عن حاجتها الفعلية لتنويع مصادر الطاقة السلمية انطلاقا من حسابات اقتصادية. فالمجتمع ينمو ديمغرافيا والزيادة السكانية ترفع من نسبة الاستهلاك المحلي وخصوصا ان الطبقة الوسطى التي تطمح لنوع من الرفاهية الاجتماعية اخذ حجمها العددي يتسع مع الأيام ويرهق موازنة الدولة ويعطل عليها امكانات تطوير الاقتصاد في مختلف فروعه.
الحاجة إذا هي السبب الذي دفع طهران الى البحث عن مصادر بديلة وليست الذرائع الأمنية كما هي حال «إسرائيل». فالنفط والغاز مادة مؤقتة وما تملكه إيران من احتياطات يمكن أن يستنفد في سرعة قياسية في حال استمر النمو السكاني وتواصل اتساع رقعة الطبقة الوسطى. وهذا الأمر يشكل خطورة على التطور الاقتصادي ويعطل على طهران استقلالها السياسي في المستقبل لأنها ستضطر الى استهلاك إنتاجها من النفط والغاز داخليا وستخسر ذاك الفائض النقدي من العملات الأجنبية الذي تحتاجه في تجارتها الدولية.
كذلك تتذرع طهران بضرورة مساواتها بغيرها ومساواة غيرها بها. فهي لا تمانع ان تملك القوى الإقليمية ودول الجوار حق البحث عن مصادر بديلة للطاقة السلمية وذلك لاعتبارات اقتصادية وليست أمنية كما هي حال الاعتراضات الإسرائيلية. فالاحتياطات المقدرة في المنطقة من غاز ونفط تتراجع ويمكن ان تستنفد خلال فترة تتراوح بين اربعة وتسعة عقود. كذلك فإن كلفة إنتاج الكهرباء من الغاز والنفط يعتبر أعلى من كلفة إنتاجه بالوقود النووي. والفارق بين الكلفتين يوفر ثروات نقدية للخزينة يمكن استخدامه في التطوير والتحديث وتوسيع قطاعات الإنتاج وتلبية حاجات السكان في حقول أخرى.
مسألة الاقتصاد تمثل نقطة قوة في الذرائع التي تستخدمها طهران في مفاوضاتها مع الدول الكبرى. فهي تعزز المنطق السلمي وتقلل من تلك المخاوف التي تثيرها تل ابيب في الدوائر الدولية والعواصم الغربية. حتى موضوع البيئة والخطر البيئي وتأثير النفايات النووية على الصحة العامة شكل بدوره نقطة نقاش في الحوار المفتوح بين طهران والمؤسسات والهيئات الدولية. فالطاقة النووية السلمية لم تعد تشكل ذاك الهاجس كما كان الحال في العقود السابقة. وهناك في العالم 442 مفاعلا موزعة على 30 دولة اوروبية وأميركية وآسيوية ولاتينية. فرنسا مثلا تنتج 77 في المئة من حاجتها للكهرباء من خلال الاعتماد على المفاعل النووية، واليابان 30 في المئة، وألمانيا 29 في المئة، وبريطانيا 27 في المئة والولايات المتحدة 20 في المئة. وكل هذا الإنتاج يتزايد الاعتماد عليه سنويا ولم يخلق آثاره السلبية على البيئة والصحة العامة.
الذرائع الإيرانية السلمية والشفافة هذه شكلت مادة حيوية للبحث عن مخارج سياسية تتجاوز حدود المخاوف الأمنية الإسرائيلية التي لعبت دورا في إثارة القلق وتأليب الرأي العام الدولي على قيادة طهران.
الآن وصل الحوار الى مفاصل دقيقة وباتت الولايات المتحدة تستند في هجومها السياسي على مشروع التخصيب الإيراني الى قرارين دوليين صدرا عن مجلس الأمن وتخطط في الاسبوع المقبل لحث الدول الكبرى على التعاضد لإصدار مشروع قرار ثالث أكثر تشددا ويشتمل على فقرات تنص على فرض عقوبات قاسية. واللقاء التمهيدي الذي جرى أمس في انقرة بين سولانا ولاريجاني يصب في هذا الإطار. فهل تنجح طهران في اقناع العالم الغربي في حقها المشروع وتواصل عملية التخصيب من دون عقوبات وعواقب أم تنجح تل ابيب في اشغال الدول الكبرى بملاحقة مشروع واضح المعالم ومراقب دوليا في وقت لا تزال «إسرائيل» ترفض التوقيع على المعاهدات والمواثيق وتمنع بعثات التفتيش من مراقبة مفاعلها وكشف «اسراره» أمام العالم؟.
الجواب بحاجة الى وقت لتوضيح مختلف زوايا الصورة. ولكن كما يبدو أخذت تظهر في الافق الدولي بدايات ليونة سياسية تتجه نحو القبول بالذرائع الإيرانية. وفي حال وافق مجلس الأمن على حق طهران في التخصيب لاغراض سلمية فمعنى ذلك ان ابواب التقدم في اتجاه تنويع مصادر الطاقة قد فتحت أمام دول المنطقة من مصر الى تركيا ودول الخليج العربية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1693 - الأربعاء 25 أبريل 2007م الموافق 07 ربيع الثاني 1428هـ