الكلام الذي أبداه وزير الداخلية الشيخ راشد بن عبدالله آل خليفة لرؤساء تحرير الصحف المحلية، والذي اعتبر فيه الطائفية بمثابة أكبر خطر يهدد الأمن هو كلام جميل في صراحته ووضوحه، لكونه تسليما عقلانيا متوقعا أن يصدر من مسئول كبير وبارز هو وزير الداخلية البحريني الذي يحتل بحكم منصبه المسند إليه مقام الإشراف على صدر الأمن الوطني.
وهو اعتراف ومصارحة تأتي في محلها حينما توجه إلى أصحاب إحدى أبرز أدوات ومفاعل صناعة الرأي العام والتحكم في توجيه تفاعلاته، وهي على رغم كل آثار تلك الحمى الطائفية المضنية للروح والجسد الوطني تأتي أيضا في وقتها على رغم حجمها واقعيا مقارنة بمساحة الخطر الطائفي وتغلغله في بنيان المجتمع والدولة، وتأخرها في الإتيان بأي فعل منجز وحقيقي للتخفيف بأعظم شكل ممكن من تلك الحمى الصفراء القاتلة المبيدة.
ولعله من قارئ عزيز يعتب علينا بداية ما اشتبه عليه من تحميل ومحاسبة أو عدم تحمس لخطوات الداخلية المعلن جديتها للتعامل مع الخطر الطائفي الأول على أمن البلاد، والذي مثلما هو يستمد عافيته وكامل عنفوانه من سياقات وظروف إقليمية مشتعلة ومتدحرجة ككرة من نار، فإنه وبالمثل يتمثل بالداخل كطبقات جيولوجية متراكمة تاريخيا على بعضها بما تطويه في ثناياها من جروح وتقيحات سرعان ما يتم حفرها وإلهابها من جديد حد الهوس العصابي والحاجة إلى اللوذ والاحتماء بدفء عصبوي بديل، وذلك بعد أن بات احتمال اشتعالها في أية لحظة أمرا هينا وممكنا.
وكما أنها قد تعتبر رسما تعبيريا وحيا انطباعيا عن حالة فقدان الثقة التي أوشك وتقيض لها أن تتجذر تاريخيا بين الطوائف الكريمة تارة على أرض البلاد، وبين الدولة والطوائف الكريمة تارة أخرى، والأنكى من ذلك أن تكون الطائفية قد تمظهرت في شكل ممارسات فوقية باعتبارها أداة مناسبة للضبط/ الوأد الاجتماعي، تساهم في تحقيق الهيمنة المتواصلة لصالح بنيان الدولة الشمولية على حساب المجتمع، أو هي وعاء احتواء للتفاعلات والتحركات الاجتماعية غير المرغوب بها، والتي من الممكن أن تساهم في تحقيق تحركات مجتمعية مدنية فاعلة حول عدد من المطالب والقضايا الوطنية المتراكمة، ولا أرجو أن نكون أبدا أمام دولة طائفية، أو دولة مهوسة تأكل نفسها بنفسها، فالطائفية طوفان شهم وبركان أبي لا يقبل أبدا أن يتم تطويعه واستغلاله كأداة فيجرف بشره وأذاه الجميع دون تمييز!
إن الحديث عن وجود خطر طائفي أول يتهدد أمن البلاد يتطلب بالضرورة وجود استراتيجية مواجهة استباقية لمثل هذا الخطر، والسعي لتفعيل المفهوم الأمني الوقائي للحيلولة دون استفحاله وتغلغله في جميع المفاصل الحيوية للدولة والمجتمع، والسعي إلى تطبيق مفهوم الشراكة المجتمعية بتحقيق الأمن في التعامل مع هذا التهديد الطائفي المندفق من صلب أرضية اجتماعية سياسية مريضة ينبغي إصلاحها أولا، والذي يجد له روافده الإقليمية، ولربما تجد وزارة الداخلية إذا ما أعلنت التحرك بشكل استراتيجي مدروس وجيد ضد هذا الخطر شيئا من الحرج لكون مثل هذا الخطر قد احتوى صورتها النمطية ودورها المؤسسي، ووضعها ضمن تشكيلته السياقية المدمرة، والتي أقرب ما تكون فيه الطائفية إلى الملهاة الاستراتيجية والسياسوية منها إلى التراجيديا الاجتماعية المحزنة رغم ما بها من حس مأسوي رهيب، فهي الجهة التي تعلن الطائفية خطرا أوليا يتهدد أمن البلاد، وينبغي مواجهته هي ذاتها التي قد تكون مدرجة ضمن احتوائية ذات الخطر، بحيث تكون معرضة للتنميط والقولبة الطائفية لدى أبناء الطائفتين الكريمتين، ففي حين تتعرض لإسقاطات وتشبيهات مستهلكة تاريخيا من قبل أبناء طائفة معينة كدلالة على البطش والتنكيل والبغي إلى حد يتم التعدي والتخوين لمنتسبي ذلك الواجب الوطني النبيل!
فإنك تجد على ضفاف طائفية أخرى من يرى في الأدوار الأمنية السلطوية بشارة خير تحقق خلاصا وتطمينا طائفيا من تربص وخطر طائفة أخرى، وبلا شك يتعدى الخطر الطائفي حدود السلطة الأمنية الرادعة لكونه جزءا مفصليا من أزمة بنيوية الدولة ذاتها والعلاقة بينها وبين الحركة التطورية للمجتمع الأهلي والمدني، وفشل احتضان الأولى للأخير في حين نجح تطويعها وتدجينها الذي قد يحسبه البعض احتضانا، رغم كون مثل هذا التطويع/ الاحتضان قد أتى دون صياغة هوية وطنية جامعة تنطلق من مساواة في الحقوق والواجبات وحلحلة للأزمات الاقتصادية المعيشية والسياسية المتراكمة، وتصفية القضايا والملفات العالقة بدلا من الاعتماد على رتوش مسرحية ودرامية لإنهاء ذلك.
هذا في ما يتعلق بحجم الأزمة الطائفية، ومدى محدودية قدرة السلطات الأمنية على التعامل معها لكونها أزمة دولة ومجتمع وإدارة وتوجيه فوقي، أما إذا وضعت أية استراتيجية أمنية شاملة لتحقيق أكبر قدر ممكن من الاستقرار والضبط والتحكم والرصد الممكن لتحولات الخطر الطائفي، فذلك يقتضي تعاملا أكثر موضوعية وإنصافا مع مثيري البلبلة وعدم الاستقرار مهما علت المناصب وتطاولت أدوات النفوذ التي تروم تحقيق السيطرة والهيمنة، وتمرير أجندة معينة تضمن لها ديمومة التحكم والتسلط على رقبتي الدولة والمجتمع، كما أنه وفي ظل الأوضاع الطائفية المسمومة التي يعايش المواطن المسكين همها إلى جانب همومه المعيشية التي يفترض بها أن تكون رابطة توحيدية بينه وبينه أخيه المواطن بغض النظر عن ما بينهما من اختلاف، فإذا بها تستحيل سكاكين تشطير طائفية في زمن يصبح فيه تقديم الورد فعلا طائفيا وأمرا يبعث اللبس ويستلزم الاحتراز الوقائي، فإنه ونتيجة لكل ذلك أرى بأنه لا يجب أن يتم التفريق في الدور التخريبي والهدام بين الفتيان والصبية الذين يقومون بإثارة الشغب في عدد من المناطق، وتعطيل مصالح الناس، والاصطدام بقوات الأمن من جهة، وبين ما يقوم به بعض المحررين والصحافيين وكتاب الأعمدة والمقالات الصحفية الممسوسة المسمومة، والتي تعمل بشكل متواصل على تسخين الأجواء وتسميمها وإثارة الطائفية في كل مناسبة وبعضا من هؤلاء قد بلغ سن الكهولة والشيخوخة، وأخريات بلغن سن الحيزبون، وهم/ هن الذين يتم تكريمهم/ هن واحتضانهم/ نهن على الملأ رغم كونهم/هن قد عملوا على استخدام مصطلحات وصياغات تمييزية وانتقاصية بحق الآخر المختلف مذهبيا تصل إلى حد إخراجه من دوره التاريخي والوطني، ولا أظن أن من يستخدم مصطلحات «المصب الرئيس» وغيرها هو متخصص في المياه الجوفية والطاقة المائية!
بالإضافة إلى التصدي لدعاة ووعاظ الفتنة والتحريض الطائفي من على المنابر، والتعامل مع تصدير واستيراد الأشرطة والكتيبات الطائفية على اعتبار أنها لا تقل عن توريد وتصدير شحنة مخدرات ممنوعة، ولا تختلف عن مثل هذا التصنيف لكونها قد تحمل أثرا تدميريا أكبر على المدى القريب والبعيد يمس الفرد والمجتمع والدولة ككل، ولست هنا أدعو السلطات الأمنية لاستخدام الرصاص المطاطي ومسيلات الدموع بإفراط كبعض المعضدين للمفاصل التوتاليتارية للدولة، فمثل هذا الاستخدام المفرط لم يجد نفعا ضد هؤلاء وأصبح في تصور البعض بمثابة «عقاب جماعي» من السهل طبخه طائفيا، كما هو استعمل ضد مثيري الشغب دون أن يجدي نفعا.
فحتى لو استخدمت مسيلات دموع وطنية مع مشاغبي ومخربي الصحافة من ثعابين الطائفية الذين هم يساهموا في تأجيج الخطر الطائفي الأول على الأمن القومي، فهي لن تنفع، لكون الحديث عن المواطنة والوطنية والانسجام بين مختلف الأطراف يعد في حد ذاته رومانسية حالمية لابد من تعقيلها وتوقيعها طائفيا، وعاطفة انفعالية جامحة لا بد من ترويضها طائفيا عوضا عن أن تكون ضرورة مبدئية راقية، وحاجة مصلحية ماسة، فهناك قوالب وقنوات اجتماعية واقتصادية مريضة كفيلة بإسناد ودعم وحتى تعزية وتجبير أي كسر خاطر لمثل تلك الثعابين الطائفية، التي انطلقت إحداها في القيام بدور أكثر خطورة يتمثل في محاولة بليدة «والحمد لله» لتجذير الوعي الطائفي التاريخي عبر إعادة قراءة وتقديم التاريخ على أسس طائفية جديدة فارزة، والسعي لإطفاء أدنى بارقة أو شرارة وطنية محتملة قد أنارت من قبل الذاكرة الوطنية، وهو إفلاس أسود بكل تأكيد والذي يرى إمكان إعادة كتابة التاريخ الممسوس طائفيا وسط زحمة البشوت و»الدلال» و»خياش العيش» والقطعان البهيمية المساقة للذبح!
وفي ظل مثل هذه السوداوية الطائفية المرهقة للبصر والبصيرة تظل المهمة المحددة بأدوار السلطات الأمنية ممثلة في وزارة الداخلية للتعامل مع الخطر الطائفي الأول أكثر جدوى وحتمية عبر وجود استراتيجية شاملة ومعلنة للتصدي لمثل هذا الخطر تتعاون فيها كافة جهات الدولة والأطراف المجتمعية بدلا من اصطدام بعضها ببعض، وهو ما يقتضي جرأة وحزما وتفويضا للتصدي لمثل هذا الخطر بشكل جماعي عسى أن يساعد ذلك ولو نسبيا في تأسيس دولة الحرية والمساواة تحت حكم المؤسسات والقانون، لا دولة الشبكات والعصابات والتقارير المأزومة والقرصنة المتنفذة.
على الأقل لتتخذ خطوات مبادرة أولية لحل بعض الملفات الساخنة العالقة، وليتم إصدار قانون لتجريم التمييز بكل أنواعه ومستوياته وأشكاله، وهو القانون الذي لطالما أرهق وأضنى هم المطالبة به المناضلين الوطنيين والشرفاء في هذا البلد بمن فيهم الرمز الوطني المناضل عبدالرحمن النعيمي «شفاه الله وعافاه».
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1693 - الأربعاء 25 أبريل 2007م الموافق 07 ربيع الثاني 1428هـ