التصعيد العسكري الذي تلوح به حكومة إيهود أولمرت ضد الحكومة الفلسطينية يذكر بذاك الهجوم العسكري الذي قادته حكومة أرئيل شارون ضد السلطة والرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ردا على مبادرة السلم العربية التي صدرت عن قمة بيروت في العام 2002.
التصعيد السابق جاء ردا على الهجوم العربي الدبلوماسي بتشجيع من إدارة واشنطن التي قررت آنذاك القيام بعمليات عسكرية تأديبية ضد الدول العربية والمسلمة انتقاما لهجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001. والتصعيد الحالي الذي بدأ بهجمات على مدن شمال الضفة الغربية وأخذ يتسع ليشمل غارات جوية وضربات ميدانية يشير إلى وجود حركة هجوم مضاد بدعم أميركي أيضا ضد مبادرة السلم العربية التي تم تجديدها في قمة الرياض العام 2007.
خمس سنوات تفصل بين المبادرة الأولى والثانية وحتى الآن لايزال الهجوم العربي الدبلوماسي يواجه الرفض الإسرائيلي المدعوم من الولايات المتحدة على رغم ما جرى من كوارث في العراق ولبنان. فإدارة جورج بوش كما يبدو لاتزال تراهن على الضعف العربي وتعتبر أن النظام العربي غير قادر على تحويل أقواله إلى أفعال وأنه لا يملك تلك الوسائل التي تسمح له بالدفاع السياسي عن هجومه الدبلوماسي.
احتمال التصعيد العسكري وحصول مواجهات ميدانية في الضفة والقطاع مسألة واردة في حال وجدت حكومة تل أبيب أنها تواجه حركة دبلوماسية تلقى ذاك الاحترام والتقدير الدوليين. كذلك احتمال الرد الإسرائيلي ليس مستبعدا إذا تعزز الهجوم الدبلوماسي العربي بدعم شعبي يؤكد على حقوق الشعب الفلسطيني وحقه في العودة وإقامة دولة مستقلة وذات سيادة وقابلة للحياة.
«إسرائيل» الآن تمر في مأزق وجودي وتاريخي وهي تريد أن تكرر سياسة الهروب إلى الأمام في محاولة منها لكسب الوقت وتأجيل الاستحقاق الذي يطالبها بتنفيذ القرارات الدولية المجمدة منذ عقود وعقود. وهذا المأزق الذي تحاول حكومة أولمرت حله من خلال التهجم على الأقلية العربية الموجودة منذ عام النكبة في فلسطين 1948 يكشف فعلا عن عمق تلك المعضلة التي أخذت تهز صيغة الكيان الذي تأسس بالقوة ضد أصحاب الأرض.
فتح ملف الأقلية العربية في أراضي 1948 ليس أمرا جديدا. فتل أبيب كانت دائما تطرح هذا الموضوع وتشير إليه بصفته قنبلة سكانية موقوتة. وحاولت حكومات تل أبيب حل المشكلة من خلال تطويق القرى وعزلها وتهديدها وقطع المياه والكهرباء عنها أو منع تواصلها واتصالها بهدف تعطيل حياتها العادية اليومية لإجبار الناس ودفعهم نحو الرحيل أو بيع الأراضي أو الانتقال أو التشتت في العالم.
ملف الأقلية العربية شكل ذاك الهاجس الأمني المفتعل وترافق دائما مع طرح مشروعات خطط أمنية تقضي باستكمال التهجير أو بناء مستوطنات لمهاجرين جدد لتغيير البنية السكانية والتوازن الديموغرافي لقهر الناس وإقفال كل الطرق أمامهم.
الأقلية العربية صمدت وتحملت الصعوبات وتقبلت الحد الأدنى من شروط الحياة للمحافظة على ممتلكاتها وأراضيها وقراها وتراثها ونجحت مع الأيام في تشكيل قنوات لاختراق هذه المنظومة الاستيطانية فاعتمدت كل الوسائل المتاحة لضمان الهوية وإفشال مخططات التذويب أو الطرد.
اختارت الأقلية العربية في أراضي 1948 طريق الاندماج والتعامل بواقعية مع أدوات القهر والاستيلاء فانضمت نخبتها إلى النقابات والهيئات المدنية والحزبية وأخذت تخوض نضالاتها تحت سقف قوانين الدولة ودستورها. ومع الأيام اكتسبت النخبة العربية خبرات في الإدارة ونجحت في إعادة تنظيم صفوفها ضمن إطارات مهنية وحرفية تحولت بمرور الزمن إلى مراكز سياسية ساهمت في تعديل المقاييس وتطوير العلاقة مع المؤسسات. فالأقلية لم تعد ضعيفة وخائفة ومنبوذة تبحث عن ملاذات آمنة لحماية نفسها من الانقراض أو الطرد أو التهجير أو التذويب. فهذه الأقلية أصبحت «أكثرية» نسبية يحسب حسابها في موازين القوى الانتخابية. وبناء على هذا التطور السكاني المجبول بالمعرفة واكتساب الخبرات أخذت الأقلية تؤسس تلك المنظمات الأهلية والتجمعات القومية والعربية والنقابية لتأسيس مواقع قوى للممانعة، وكذلك لخوض انتخابات ضمن لوائح مستقلة تنافس قوائم التكتلات الحزبية الإسرائيلية.
تحولات عربية
خلال العقود الثلاثة الأخيرة تخطت الأقلية العربية حواجز الخوف وأسست لنفسها هيئات مستقلة نجحت سياسيا في اختراق الكنيست وإرسال مجموعة نواب تميزوا بخصوصية شعبية واستقلالية في المواقف والقرارات. وشكل هذا الطور الجديد في التعامل الداخلي نقطة توتر رفعت من نسبة القلق الذي كانت تراهن عليه وتبالغ به الكثير من المنظمات العنصرية التي تطالب بطرد العرب ومنعهم من الانتخاب والترشح في اعتبار أن «إسرائيل» دولة اليهود ولا يحق لأي طرف آخر من جنس أو دين مخالف المشاركة في هيئاتها ومؤسساتها.
هذا الموقف العنصري الصافي الذي يدعو إلى تصفية العرب وتنقية دولة «اليهود» من غير اليهود تطور سلبا مع الأيام ولكنه كان يتعرض إلى ضغوط حتى لا تنفضح طبيعة الكيان وتنكشف خصائصه التي لا تتجانس مع الآخر حتى لو كان الآخر هو صاحب الأرض. وحين بدأت الهجرة اليهودية الضخمة بالوفود إلى فلسطين من الاتحاد السوفياتي ودول المعسكر الاشتراكي في ثمانينات القرن الماضي تراجعت أصوات المطالبين بالطرد والتصفية مؤقتا بانتظار ما ستسفر عنه التعديلات الديموغرافية الجديدة. آنذاك راهنت تل أبيب على الهجرات الجديدة لتعويض النقص السكاني النسبي وإعادة ترجيح الغلبة اليهودية بشكل يطغى على كل احتمالات التعديل الديموغرافي خلال العقود المقبلة.
لا يعرف حجم الهجرات السكانية الجديدة ولكن الأرقام تتراوح بين نصف مليون إلى مليون. وهذا العدد اعتبرته المؤسسة الصهيونية يكفي لسد النقص المطلوب لمنع العرب من تعديل كفة التوازن في المستقبل.
شكلت الهجرات في ثمانينات القرن الماضي ذاك الرافد البشري المطلوب لحماية الكيان وضمان هويته اليهودية. واستمرت الهجرات إلى أن توقفت جزئيا في التسعينات وتشكلت في ضوء نتائجها السكانية حركات سياسية جديدة في نزعتها المتطرفة وأخذت تلك المنظمات المنبثقة من المهاجرين الجدد تضغط على المؤسسات الصهيونية لاستكمال سياسة الطرد والحصار والاستئثار بالممتلكات والأراضي العربية في 1948.
هذا التطور الديموغرافي الذي شجعته الولايات المتحدة في فترة تفكك المعسكر الاشتراكي بقصد منع تعديل التوازن السكاني لمصلحة الفلسطينيين تحول الآن وبعد عقدين من الزمن إلى طور عنصري جديد ومخيف يكشف عن تحولات تتصل بالتركيب العضوي الإسرائيلي وتطرح أسئلة عميقة عن هوية «الدولة اليهودية» ومستقبلها في المنطقة.
النائب العربي الفلسطيني عزمي بشارة الذي استقال أمس الأول من الكنيست يعتبر أبرز ضحايا هذه التحولات التي ترمز إلى نمو نوع من المأزق الوجودي والتاريخي في دولة قامت أساسا على الطرد والاستيلاء والقهر وما تنتجه هذه السياسة من سلوك اجتماعي حاقد وكاره ورافض للتواصل أو الانفتاح أو التفاوض أو المسالمة.
استقالة عزمي بشارة من عضوية الكنيست ليس حادثا عابرا أو مجرد حركة تفصيلية تحصل عادة ودائما في كل برلمانات العالم. الاستقالة يمكن تصنيفها في خانة مختلفة وقراءة معانيها في سياق سياسي يوضح مدى الخلل الذي وصلت إليه المؤسسات الصهيونية بعد مرور أكثر من 59 سنة على تأسيس الدولة. فالاستقالة هي ليست احتجاجا على أيديولوجية عنصرية طاردة وإنما أيضا إشارة إلى وجود تحولات في بنية دولة تأسست «خارج» التاريخ بسبب موقعها الجغرافي وبنيتها السكانية.
طرد عزمي من البرلمان ورفض مبادرة السلم العربية للمرة الثانية في أقل من خمس سنوات والهجمات على مدن الضفة الشمالية والتهديد بإعادة الاحتلال والاجتياح وتشديد الحصار على الأقلية العربية في 1948 ومحاصرة الشعب الفلسطيني في 1967 كلها إشارات وتنبيهات عن وجود أزمة وجودية تطوق حكومة أولمرت وتضغط للرد أو الثأر. أولمرت الان يواجه أحد خيارين إما استكمال سياسة الاقتلاع أم القبول بالأمر الواقع والتعامل بعقلانية مع حقائق الجغرافيا والتاريخ.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1691 - الإثنين 23 أبريل 2007م الموافق 05 ربيع الثاني 1428هـ