على خلاف ما يتوقعه المراقبون، فمن المحتمل أن تتسبب الأزمة المالية العالمية العنيفة في كساد الاقتصاد العالمي، كما من المحتمل أن يستمر هذا الكساد لفترة طويلة وقد يؤسس لبداية عصر يعرف ارتفاعا في الضرائب ونموّا اقتصاديّا بطيئا في البلدان الغنية. كما سوف يسرع الأزمة المالية التي ستطول المشاريع الاجتماعية الإجبارية.
لقد تدهورت الأسواق المالية كردة فعل على فشل خطة الإنقاذ الأميركية، وبتدهور الأسعار المحلية (home prices)، سيتواصل ضعف الموازنات العمومية للمؤسسات المالية وستنتشر الأزمة. لقد تعالت الأصوات المطالبة بخطط إنقاذ واسعة في أوروبا وفي أماكن أخرى لكنه من غير المؤكد أن تفلح هذه المبادرات النقدية والمالية في تجاوز الأزمة.
لقد كانت الأزمتان الأميركيتان الماضيتان معتدلتين، وشهد نمو الاقتصاد العالمي توقفا لفترة وجيزة فقط. والأمل اليوم هو أن تنجح خطط الإنقاذ في جعل الكساد الاقتصادي القادم طفيفا وقصير الأمد. ولكن ما هي احتمالية ذلك؟ لقد حدث الكسادان السابقان - العام 1991 والعام 2001 - في ظل أساسيات اقتصادية سليمة (economic fundamentals): قوى عاملة ذات إنتاجية عالية، نمو قوي للاستهلاك، تطور مطرد للتجارة العالمية، وضرائب قليلة. أما في هذه الأزمة، فالكساد قادم وهذه الأساسيات الاقتصادية أضعف بكثير مما كانت عليه في المرتين السابقتين.
لنتمعن، أولا، في نمو الإيرادات. فأبناء جيل الازدهار (baby boomer) من العمال الأكثر خبرة في أميركا وأوروبا بدأوا بالتوجه إلى التقاعد. وعلى رغم أن نسبة كبيرة من العمال الأكبر سنّا لا يزالون يشكلون جزءا من القوة العاملة في السنوات الأخيرة، فإن الكساد القادم يمكن أن يلقي بهم في صفوف العاطلين. فنقص الائتمان (credit shortage) بدأ يجبر الكثير من الشركات على تقليص وخفض النفقات. ومن المرجح أن تؤثر هذه الضغوط على كبار السن من العمال بشدة من خلال إجبارهم على التقاعد بشكل أكبر. وعليه فان خروج العمال الأكثر خبرة من العمل، قسريا أو طوعيا، سيؤدي إلى تقليل جودة العمل العامة، وإبطاء الإنتاجية ونمو الإيرادات. وستستمر هذه الظاهرة طوال العقدين المقبلين.
قام المستهلكون الأميركيون، الذين يُعتبَرون محرك النمو العالمي، بتقليص الإنفاق. أما الارتفاع الأخير في أسعار النفط فقد قلل الإنفاق على السلع غير النفطية. وعلى رغم أن أسعار النفط قد انحسرت تحت تهديد تباطؤ اقتصادي عالمي، ستستمر بعض العوامل الأخرى في تقليل الإنفاق الاستهلاكي. وبينما يقترب أبناء جيل الازدهار من التقاعد، فإن المخاوف بشأن الجدوى العملية لبرامج التقاعد العامة التي انخفضت قيمتها نتيجة انهيار سوق الأسهم، كما أن انخفاض الأمان الوظيفي نتيجة البطالة المتزايدة، قد يدفعان الكثير من العمال إلى زيادة الادخار.
يمكن للنمو الاستهلاكي المتباطئ للأنظمة الاقتصادية للبلدان المتقدمة أن يعوض بنمو استهلاكي أسرع في البلدان النامية ولاسيما في الصين والهند. لقد كانت التجارة هي بارقة الأمل الوحيدة للاقتصاد الأميركي خلال العامين 2007 و2008، فعند تراجع قيمة الدولار، حافظت الصادرات سريعة النمو على زيادة الناتج الأميركي. ولكن هذا السيناريو غير وارد في المرحلة المقبلة في ظل قتامة التوقعات الاقتصادية في العالم.
إن النمو الاقتصادي السريع في الصين نابع من ادخارات محلية عالية، واستثمارات موجهة صوب البنى التحتية، والتصنيع والتصدير. ومع انخفاض الإنفاق الاستهلاكي العالمي، على الصينيين تشجيع نمو استهلاكي محلي سريع للحفاظ على قطاعهم الصناعي. كما أن الزيادة في الإنفاق الصيني ستكون لصالح البضائع غير الصينية، وستفيد من ذلك صادرات وإيرادات الدول المتقدمة. كما أنه من الوارد أن يضع السياسيون الصينيون عوائق تجارية من أجل عزل اقتصادهم تفاديا للكساد العالمي.
وتعتبر الهند أقل تعرضا للكساد بسبب السيطرة الإدارية العالية على الواردات وبسبب التعريفات، ولكن كسادا قاسيّا في البلدان الغربية سيؤدي إلى مواقف أكثر حمائية من قبل صناع السياسة الهندية أيضا.
إن تباطؤ الطلب الاستهلاكي وإنتاجية العمل واحتمال تباطؤ النمو التجاري كلها مؤشرات تنذر بأن الكساد المقبل لن يكون كسادا معتدلا. فان لم تفلح خطة الإنقاذ باستعادة الاستقرار المالي بشكل فوري - وهذا ما يشكك فيه الكثير من علماء الاقتصاد - فان إنقاذ الاقتصاد بمجمله سيتطلب المزيد من الأموال العامة، وسيزيد من أعباء دافعي الضرائب في المستقبل.
إن إيرادات الأجيال المستقبلية مثقلة سلفا بالكثير من الالتزامات الحكومية لدفع التقاعد العام وخدمات الرعاية الصحية لكبار السن من أبناء جيل الازدهار. إضافة إلى ذلك، فان الخلل المتزايد في الموازنات المالية للحكومات الإقليمية وحكومات الولايات ستتطلب تخفيضات حادة في الخدمات، ومن المحتمل جدّا أن تتطلب ضرائب أعلى. وإذا لم تُقلل مسئوليات الحكومة والتزاماتها، ستصبح الأزمة المالية الحالية الهائجة نقطة تحول لعصر جديد من الضرائب المرتفعة المستديمة، وهذا يعني نموّا اقتصاديّا بطيئا مستديما بين البلدان المتقدمة.
لقد وعد السياسيون في الماضي بتقليل حجم ونطاق الحكومة عندما كانوا يبحثون عن المناصب، لكنهم تجنبوا الخيارات الصعبة التي ينطوي عليها ذلك. وما الكلفة الباهظة للبرامج الاجتماعية الإجبارية إلا مثال شنيع لفشل القيادة السياسية. وسوف يقيد هذا الفشل بشكل كبير خيارات السياسيين المستقبلية. إنه لمن المتعارف عليه أنه لا يتم إصلاح البرامج الاجتماعية الإجبارية حتى توشك هذه البرامج أن تتعرض لأزمة مالية. وإذا تفشت الأزمة المالية الحالية، وتقلص الوعاء الضريبي بينما استمرت المعدلات الضريبية في الارتفاع، فان الكارثة الضريبية ستحل علينا بأسرع مما نتوقع.
* زميل أقدم في معهد كيتو، والمقال ينشر بالتعاون مع «مشروع مصباح الحرية»
إقرأ أيضا لـ "مصباح الحرية"العدد 2255 - الجمعة 07 نوفمبر 2008م الموافق 08 ذي القعدة 1429هـ