ليست هناك حاجة إلى الكثير من التمعن فيما أوردناه سابقا، كي يكتشف القارئ، أن هناك فرصا جيدة من أجل بناء صناعة تقنيات عربية، فحجم السوق، واحتياجات المستهلك، جميعها عوامل إيجابية يفترض فيها أن تشجع الاستثمار العربي كي يلج هذه الصناعة وفق رؤية محددة وبخطى ثابتة. على أن الإقدام على ذلك وبمشروعات ناجحة يقتضي الاستجابة لمجموعة من المتطلبات من بين أهمها:
1. رؤية التحولات النوعية التي بدأت تفرض نفسها على الاقتصاد العالمي، وتحوله الاستراتيجي، وخاصة في البلدان الصناعية المتقدمة، من اقتصاد يعتمد أساسا على الإنتاج، إلى آخر مختلف يعتمد بشكل رئيسي على الخدمات، التي باتت في دول مثل اليابان والولايات المتحدة تشكل ما لايقل عن 43 في المئة من إجمالي الناتج القومي. هذا التحول نحو «الخدماتية» مقابل «الإنتاجية»، لم يعد محصورا في الصناعات الخدماتية التقليدية مثل السياحة وما يحيط بها، بل بات يشمل حتى صناعات إنتاجية تقليدية مثل صناعة السيارات، التي تشهد اليوم تحولا كبيرا يأخذ بيدها من مجرد مركبات تسير بأربع عجلات إلى نظام خدماتي كامل تشكل السيارة إحدى مكوناته الصغيرة.
2. تشجيع تأسيس شركات الرأسمال المغامر (Venture Capital)، وفق المقاييس والأنظمة المعمول بها في الدول الصناعية المتقدمة، مثل الولايات المتحدة، التي وصلت إلى مراحل متقدمة من مراحل تدخل الرأسمال المغمر في توجيه السوق، والمشاركة في آليات تطورها، الأمر من شأنه خلق البيئة الصحية الملائمة التي تزاوج بين إبداعات العقول الشابة، واحتياجات السوق المحلية. هذا بدوره سيدفع المؤسسات التعليمية، بالإضافة إلى الارتقاء بأشكال التدريس فيها ومواده، إلى التفتيش أيضا، عن قنوات الاتصال مع تلك الشركات من أجل الاستفادة من رساميلها الاستثمارية، وخبراتها في آليات الأسواق واتجاهاتها.
ينبغي لفت النظر هنا إلى أن هذه العلاقة لن تساهم في تهيئة السوق المحلية، وتطوير دور الرأسمال المحلي فحسب، وإنما ستساهم أيضا في الارتقاء بمستوى البرامج التعليمية، وتحسين أداء مخرجاتها.
3. تطوير أشكال ومجالات توليد «القيمة المضافة» في كل القطاعات الصناعية. وليس المقصود بالقيمة المضافة إضافة كمية محدودة لقيمة المنتج، بقدر ما أصبح المطلوب أن تكون أسعار القيمة المضافة المولدة أعلى بكثير من تلك التي يحتوي عليها أو يولدها، المنتج الأصلي. يمكننا هنا الاستشهاد بالهواتف النقالة، التي باتت الخدمات المستنبطة من القيمة المضافة التي تولدها التطبيقات والبرمجيات المضافة على تلك الهواتف، تفوق قيمتها الأصلية كأجهزة ومعدات. ولو قدرنا قيمة مادة الألمونيوم الموجودة في جذاذات تلك الهواتف، وقيمة تلك الجذاذات، فسوف نكتشف ما هو المقصود بالأسعار التي تولدها خدمات القيمة المضافة.
4. بناء الهياكل التحتية الضرورية التي تخاطب صناعة تقنية المعلومات وتلبي احتياجاتها. هذه الهياكل، هي الأخرى ينبغي أن تكون من طرز مختلف، وبنية تميزة، عن تلك التقليدية، إذ لابد لها أن تكون قادرة على التمتع بالمرونة الضرورية التي تؤهلها للتفاعل مع القوانين والأنظمة المعمول بها من جهة، وتلبية احتياجات توليد «القيمة المضافة» من جهة ثانية. من هنا لم يعد المقصود بالبنية التحتية التي يحتاجها الاقتصاد الصناعي الحديث، المعروف باقتصاد ذي القاعدة المشبكة (Network-Based Economy)، الطرق وما شابهها، بقدر ما هو أساسيات صناعة الاتصالات التي تبيح توليد القيمة المضافة، بأدنى الأسعار من جهة، وضمان التفاعل مع البرمجيات والخدمات التي تولدها تلك البرمجيات من جهة ثانية.
5. تعزيز قوانين حماية الملكية الفكرية. وهنا لابد لنا أيضا من تجاوز المدلول التقليدي للملكية الفكرية التي تحصر نفسها في مواد أوعية المعلومات الكلاسيكية من كتب ودوريات وأشرطة ممغنطة، والوصول إلى تلك الدائرة الواسعة التي تصل إلى حماية براءات الاختراع في قطاعات صناعة المعلومات المختلفة، ومن بين أهمها حزم البرمجيات، التي باتت أقيامها تصل إلى مئات المليارات من الدولارات، والتي لم يعد في مقدور الأفراد توفير أشكال الحماية التي تحتاجها، الأمر الذي يقتضي بتدخل الدولة لوضع تلك القوانين، وضمان التقيد بها.
6. الانفتاح على الرساميل والصناعات العالمية في آن، وبشكل مبدع، إذ لايكفي اجترار المقولات السابقة المشجعة مثل الإعفاء الضريبي، أو المرونة في نسبة اليد العاملة المحلية مقارنة بتلك التي من جنسيات أجنبية. المطلوب هنا بناء علاقات ثقة متبادلة من نمط جديد آخر متميز قادر على أن يغرس في أذهان تلك الرساميل والصناعات بشكل راسخ ملاءمة البيئة العربية لجذبها لهذه المنطقة كي تمارس أنشطتها فيها.
ولعل دولة صغيرة مثل مملكة البحرين، باتت اليوم، رغم مواردها الطبيعية المحدودة، مقارنة مع دول الجوار، قادرة على أن تشكل من خلال تلبية تلك المتطلبات دولة قادرة على التأسيس لصناعة معلومات متقدمة تتضافر فيها جهود القوى المحلية بما تحت تصرفها من رساميل نقدية وموارد بشرية، مع الاستثمارات العالمية بما تحت أيديها من نفوذ وتغلغل في الأسواق العالمية، وما تختزنه من خبرات غنية للتأسيس لتلك الصناعة.
قد يبدو الأمر صعبا ولكن أول الخطوات على طريق تسهيل الأمور هو القرار السياسي الذي يحول الدولة من مجرد رقم آخر في الاقتصاد التقليدي إلى عامل مميز في الاقتصاد الحديث. فهل نعي نحن في البحرين هذا التحول قبل فوات الأوان؟
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2536 - السبت 15 أغسطس 2009م الموافق 23 شعبان 1430هـ