تبقى مدينة بيروت «مصنعا للثقافة العربية» على رغم تردي أحوالها الاقتصادية وسوء حالها السياسي البغيض... وفي أشهر الصيف وموسم السياحة قضيت وقتا في أمكنة أشعر بعلاقة خاصة تشدني إليها وهي المكتبات ودور النشر ومن ضمن مجموعة مختارة حصلت على كتابين الأول للخبير الاقتصادي الدكتور كمال ديب عن «رجال السلطة والمال في لبنان»، والثاني حول «عائلات حكمت لبنان» لصقر يوسف صقر.
خلاصة الكتاب الأول تقول ثمة عائلات صنعت مؤسسة عليا غير رسمية تجمع أمراء الحرب والتجار وأصحاب الأعمال على المصالح الخاصة وتلعب هذه المؤسسة الدور الأكبر في الحياة المعاصرة اللبنانية مهما كان حجم النفوذ أو التدخل الخارجي، وفكرة المؤلف تقوم على أن الطبقة الحاكمة -سياسية واقتصادية- كانت ولاتزال قبلية تنضح بتجمع عائلات وائتلاف زعامات فردية هي في الحقيقة مجموعة حكام لمناطق يحظى كل منهم باستقلال شبه ذاتي في زمن السلم وشبه كامل في زمن الحرب، وينضم إلى أمراء الحرب مجموعة من أصحاب الأعمال الذين يفضلون تعاطي المناورات وعقد الصفقات المربحة.
يشدد الكتاب على أن الشخصيات هي التي رسمت وترسم ما يجري وجرى في لبنان وأنه خلال الفترة الممتدة من 1975 إلى 1990 طغى عدة أمراء حرب ينطبق عليهم قول وليد جنبلاط اللقب الإيطالي «Don» على سبيل المثال... آل فرنجية وآل الجميل وآل شمعون ونبيه بري وغيرهم..
قراءة الوزير الأسبق والأكاديمي جورج قرم للكتاب تذهب إلى الاستنتاج بأن تحالف أمراء الحرب والتجار الكبار أدى إلى الحئول دون جعل لبنان دولة، سواء في مجال السيادة أو العدالة أو تحقيق المواطنة وأن هذا التحالف بين رجال المال ورجال السلطة هو الذي ساهم بتدمير البلد ولهذا أطلق دعوته بنفي أمراء الحرب والمال وجميع أفراد عوائلهم إلى خارج الوطن إلى أبد الآبدين... والعمل على «ثورة شاملة» في النظام الاقتصادي السياسي الطائفي لبناء وطن حقيقي بدلا من «المزرعة» التي يعيش فيها الجميع...
القاسم المشترك
الصورة التقليدية للعائلات التي حكمت لبنان ظهرت بشكل جلي في كتاب الزميل «صقر يوسف صقر» والصادر عن المركز العربي للمعلومات في جريدة «السفير» عندما ميَّز بين نوعين من العائلات الأولى مجموعة لها حضور سياسي مطرد لم تنقطع «سلالتها» عن ممارسة العمل السياسي ولا زالت تتجدد وتعطي المزيد من الأجيال، حافظت على استمراريتها وعلى الإرث الذي ورثته، أما الجموعة الثانية فقد وضعها تحت عنوان «عائلات كان لها دور»...
القائمة الأولى ضمت 18 عائلة هي: آل شهاب وأبي اللمع وارسلان وجنبلاط والصلح والأسعد وحبيش والخازن والمرعبي والحرفوش وحمادة (بعلبك) و إده وكرامي والسعد والجميل وفرنجية وحمادة (بعقلين) وسلام. في حين أن القسم الآخر والثاني ضم آل عمار ومقدمو بشري وشكر وسيفا والظاهر والنكدي وحيدر والدحداح وعبدالملك وتلحوق والعماد والعازار.
القاسم المشترك بين تلك العائلات أنها تعاطت بالشأن السياسي والحكم وهي من البيوتات السياسية التي لها حضور ووزن وقيمة في الحياة السياسية اللبنانية، بمعنى أن من حكم من تلك العائلات لم يأت من فراغ أو تسلق إلى الحكم عن طريق المال الطارئ أو ظاهرة الميليشيات التي سادت بعد الحرب الأهلية بل جاؤوا من «رحم شرعي» عرفهم المجتمع أبا عن جد واختبره جيدا ضمن نظام تعاقب الأبناء والأشقاء.
استعراض تاريخ تلك العائلات يضيء جانبا مهما من الحياة السياسية اللبنانية التي يترحم البعض عليها الآن في ضوء ما استجد من بروز أسماء وقيادات ليس لديها خلفيات في أصول الحكم ولم تنل في حياتها شيئا من تقاليد العمل السياسي، هذه الأسماء لم تضف جديدا وبما يمكن تسميته بقيم العمل السياسي وأصول الحكم ومستويات الخصومة والخطاب الذي تتعامل به أو أنها أرست تقاليد خاصة من شأنها إغناء الحياة السياسية وليس إفقارها.
ما يمكن ملاحظته أن معظم تلك العائلات جاءت من أطراف تولى معظمها حكم «إمارات» ومن أصول عربية سواء من اليمن أو نجد أو بلاد الشام، مثل آل إرسلان وهم من قبيلة قضاعة، أي عرب أقحاح، وآل الصلح من اليمن وبداياتهم الأولى انطلقت من مدينة صيدا في الجنوب اللبناني وآل الأسعد الذين يعود نسبهم إلى قبيلة عنزة وآل حبيش وجاؤوا من جنوب الجزيرة العربية وآل المرعبي من أصول كردية وصلوا طرابلس قادمين من تركيا وآل حماده ذات الأصول الأعجمية إلى ما هنالك من فصول وروايات.
المعايرة بالأصول
المفارقة هنا أن المعايرة في البيئة اللبنانية تنطلق من قاعدة «الأصول» أي بين من جاء إلى الحكم من بيوتات سياسية عريقة وبين من دخل إليها طارئا دون «إحم ولا دستور» كما يقال في الأمثال الشعبية الدارجة، وبصرف النظر عما إذا كانت جذوره «ريفية» أم «مدنية» -نسبة إلى المدينة- وهو السائد في عدد من البلدان العربية مثل مصر وسورية وتونس والجزائر الذين تغوص بهم الدراسات والنقاشات السياسية وتتحدد على أساسها النظرة للحكم والهوية التي يطبعها في تاريخ البلد الذي ينتمي إليه... ففي الجزائر على سبيل المثال ينظر إلى «الشاوية شرق الجزائر» على أنها منبع كل الرؤساء الذين تعاقبوا على السلطة باستثناء الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة (غرب الجزائر)، فالشاوية من البربر يعتزون بعروبتهم والمشهورين بالثورات ضد الظلم ومعظم قيادات الجيش منهم ينظر إليهم كأشداء ومحافظين.
الفكرة المطروحة للنقاش ليست بمعرفة الأصول ولا بأنساب العائلات التي حكمت، وما إذا كانت حضرية أم قبلية، أو من العواصم أو الضواحي والأرياف بل فيما إذا كانت تلك العائلات الأصيلة أم الطارئة والجديدة قد طورت أو قدمت نموذجا للدولة الحديثة في الحكم، دولة مؤسسات حقيقية، أي أن الصلاحية تتوقف عند حدود ما أفرزته من ثقافة سياسية متجددة تتجاوز عقلية «العمدة» و»المختار» و»الباش كاتب» إلى صورة تقترب من عقلية الحاكم المستنير.
والسؤال من جديد، إلى أي حد يمكن السماح به في معرفة مستوى الحكم وشرعيته الدستورية وثقافته الديمقراطية تبعا بمعرفة من يحكم، وما هي خلفياته السياسية والمدنية والبيئية التي نشأ وتربى عليها...
الجامع بين الكتابين، ليس بالمضمون بل بالتعرف على دور العائلات الحاكمة ورجال المال، الذين اختلفت قراءتهم من قبل المؤلفين، ففي حين تناول الدكتور كمال ديب الجانب الاقتصادي والسياسي لتلك الفئة والطبقة بالتحليل وبالخلفيات التاريخية واعتبرهم «أساس البلية» كان كتاب «عائلات حكمت لبنان» استعراض لتاريخ تلك العائلات من منطلق الإلمام بالأصول والأنساب والتسلسل الوراثي وما أنتجته من أسماء وشخصيات لعبت أدوارا ذات أهمية وفاعلية في تاريخ لبنان السياسي والاقتصادي
إقرأ أيضا لـ "حمزة عليان "العدد 2536 - السبت 15 أغسطس 2009م الموافق 23 شعبان 1430هـ