يمكن الاستنتاج مباشرة ومن دون أية مواربة أن الواقع العربي الراهن يعبّر أصدق تعبير عن فشل العرب في تكوين دول مدنية حديثة بالمعنى الثقافي والسياسي العملي. فنحن لانزال نعيش في ظل نظم «أهلية - قبلية» غير مدنية (بالمعنى السوسيولوجي العملي) بعيدة عن منطق العصر والتطور والحداثة المعرفية والعلمية، ولا مكان فيها لأي منهجية تفكير علمية رصينة، ولا يعلو فيها سوى صوت السلف بسيوفه وتروسه وصولجاناته التي انتقلت - بقوة الدين وسطوة الأعراف والتقاليد - من أيديهم إلى أيدي الخلف من النخب السياسية والقبلية الجديدة التي يحكمها قانون البقاء والمصلحة، ويتحكم بوجودها فكر ومناخ الاستبداد التاريخي.
وقد وصلت الأمور بتلك النخب القبلية العربية الحديثة - في سياق رفضها ومحاربتها للتغيير السياسي والاجتماعي الطبيعي استجابة لمنطق تغير الحياة وتطور الإنسان، ومنعها لأية محاولة يمكن من خلالها تشييد البنى الأساسية لإقامة مجتمع مدني متطور - أنها تقف بقوة حتى في وجه أي عامل تقدم علمي أو تقني، وتمنعه من النفاذ أو الدخول إلى المجتمعات إذا كان يمكن أن يشتم من دخوله أية رائحة للتغيير أو أي حراك بسيط قد يفضي إلى حرف للأوضاع القائمة، أو تغيير بالأفكار ومن أي نوع كان، في العقلية أو السلوك أو التوازنات الاجتماعية أو السياسية.
طبعا نحن عندما نحمل معظم النخب السياسية العربية التقليدية الحاكمة مسئولية هذا التردي والضعف والانقسام والهوان الذي نقبع في داخله حاليا، لا ينبغي أن ننسى أن العلة وجذر العطالة قائم أساسا في طبيعة المناخ الثقافي المسيطر علينا منذ قرون وقرون، وأعني به أن الخلل ثقافي معرفي بامتياز قبل أن يكون أي شيء آخر، والمسئولية ليست فقط محصورة في هؤلاء الحكام والزعامات القائمة، فهؤلاء نتيجة لثقافة مجتمعاتنا... ولذلك فالخلل مركز في صلب البنية السياسية العربية المستغلة للدين وليس الدين، حيث يحاول الكثيرون الإشارة إلى الدين كمعطى ثقافي قديم انتهى دوره، وتم تجاوز قيمه وأفكاره بحكم التطور والتقدم التاريخي.
ولكننا نتصور أن السلطات السياسية الشمولية القبلية هي التي عملت على فرض رؤية أحادية سلبية للدين في أذهان الناس. ثم انطلقت لتحاسب الشعب عن هذه الرؤية التي كونتها هي عن الدين، ما يعني أن تحقيق الشروط الأولى لعملية التقدم والتجديد ليس مرهونا بتهديم البنى التقليدية (الدينية تحديدا) في المجتمع التي يمكن استثمارها واستخدامها إيجابيا بشكل مثالي ضمن عملية استنهاض المجتمع ككل. والدليل على ذلك أن حداثتنا العسكرية والمدنية قد هدمت، باسم العلمانية، كل الركائز والمؤسسات التقليدية التي كانت قائمة في المجتمع، وصار الفرد يقف وحيدا أمام سلطانات قبلية فردية مطلقة، لا يجرؤ أحد على منازعتها سلطانها ومصالحها... فماذا كانت النتيجة؟!... كانت أن مشاريع التحديث والحداثة والتقدم قد فشلت فشلا ذريعا في معظم مجتمعاتنا على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، بعد أن أعادت إنتاج صيغ حديثة شكلا لا مضمونا من مجتمعات أهلية متخلفة تم تركيبه من قبل أجهزة الدولة العربية المستوردة الحديثة.
وفي ظني أنه لا حل عمليا في المدى المنظور لتلك الإشكالية القائمة... نعم هناك مشروعات وأفكار ومبادئ وأسس نظرية مهمة ورائعة وعظيمة، ولكن العبرة في التطبيق والممارسة الجماعية على الأرض... فهناك - على سبيل المثال - الطرح الفكري الذي يدعو إلى تعميق قيم المجتمع المدني - الذي يقوم على أساس القانون والنظام العادل - في تربة مجتمعاتنا العربية والإسلامية، حيث يعتقد أتباع هذا الطرح بأنه كفيل ببناء دولة المؤسسات الحديثة التي يريدها الجميع، وذلك لأن هذا الفكر - الذي تقوم عليه مدنية المجتمع العربي والإسلامي - المناهض والمناقض لأسس المجتمع القبلي (القائم حاليا) - يمتلك معايير وضوابط وآليات عامة هي من صلب الحياة والفكر والتراث الإسلامي الأصيل، ويستطيع أن يؤمن - بالحد الأدنى - مشاركة كثيفة للناس والمبدعين في عملية الإنتاج والإثمار الحضاري المنشودة. لذلك من الضروري جدا الإيمان بأن بناء وتأسيس مجتمع مدني في العالم الإسلامي - له قواعده الثابتة وأسسه القوية الواضحة - لا يمكن أن يتم من دون وعي التراث الإسلامي وعيا إيجابيا من الداخل، ومحاولة دراسة وتفكيك وتحليل مضامينه المعرفية والفكرية والعقائدية وصياغة مقولاته وأفكاره بما يتناسب والحاجات الاجتماعية والسياسية الضرورية في عصرنا الحاضر. وإذا كانت العملية التطورية للفكر والثقافة والتراث المعرفي الغربي قد أفرزت النمط الحديث المعروف للمجتمع المدني في الغرب، فإنه يجب العمل بالمقابل - من خلال فكرنا وثقافتنا - على إيجاد نواة حقيقية لبناء نمط اجتماعي آخر من صلب مبادئنا وتراثنا العربي والإسلامي لأن الناس لن تشترك في التغيير والبناء والتنمية ما لم تقتنع بأن الفكر الإصلاحي لا يتناقض مع ثقافتها ونسيجها التاريخي العقائدي.
من هذا المنظور يؤكد أصحاب هذه الأفكار المدنية الحداثية المستقاة من التجديد الديني المنفتح على الحياة والعصر والتطورات الوجودية، على أن آلية العمل المؤسساتي المدني بصيغته الإسلامية المتطورة تفترض - مبدئيا - الارتكاز على ما يأتي:
1- بما أن موضوعة «السلطة والحكم» قد تحولت إلى ما يشبه الهاجس الجنوني الذي تعيشه غالبية فئات وطبقات مجتمعاتنا، حيث قامت السلطات الحاكمة بمحورة ومركزة وجودها على هاجس الحكم والبقاء في السلطة مهما كانت الظروف والأحوال... فلا بد من وجود إطار فكري يعمل على عقلنة السلطة، وجعلها شأنا بشريا نسبيا، واستبدل البنى والسلطات التقليدية والعائلية بسلطة القانون الاجتماعي المدني - إذا صح التعبير - المتفق عليه في المجتمع.
2- تركيز القناعة بأن أي تحول أو تغيير في الحياة لن يكون له أي تأثير إلا إذا استند على قاعدة إنسانية شاملة، مشاركة واعية وواسعة في الحكم السياسي، لأن التنافس السياسي السلمي هو المقوم الفعلي للحياة المدنية الحديثة.
3- الإيمان بوجود المعارضة السلمية وحقها في التعبير والشرعية المقننة.
4- مراعاة رأي الأغلبية في البلاد والاحتكام إليها في اللحظات الحرجة والضرورية.
5- ضرورة وجود فكر حي وفاعل ومتفاعل ومتطور في داخل الأمة يجعل من حضور الإنسان - في كل مجالات وآفاق الحياة، ومشاركته الحرة في العمل المجتمعي - شرطا ضروريا في عملية التغيير والتقدم.
6- الضغط المتواصل باتجاه تعميق وتوسيع مساحة ثقافة الحرية في المجتمعات العربية كشرط أساسي مسبق لحدوث أي تحول إيجابي فيها، باعتبار أنَّ وجود فكر مستقل وفاعل لا يمكن أن يتحقق، أو يكون له أي معنى، إلا في إطار الحرية المنظمة والواعية... حرية الفكر وحرية التعبير، وحرية الاجتماع والتنظيم السياسي، وحرية محاسبة الحكومات ومساءلتها.
وهذه الأمور المهمة لتطور ونهضة مجتمعاتنا لا يمكن تحققها إلا من خلال وعي وتطبيق الديمقراطية كآلية لإدارة شئون الناس والمجتمع بصورة مؤسساتية عادلة وصحيحة.
وتبعا لذلك ينتج عن الديمقراطية مجموعة من المعايير والقيم من أبرزها:
1- المشاركة العامة في اتخاذ القرار وضمان حرية الأفراد.
2- مسئولية الفرد عن أفعاله.
3- تحقيق العدالة والمساواة بين الناس.
4- العناية الفائقة بحقوق الإنسان.
*كاتب وباحث سوري، والمقال يُنشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org»
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 2535 - الجمعة 14 أغسطس 2009م الموافق 22 شعبان 1430هـ