مفردة العيش ومشتقاتها مادة مستخدمة في اللغة العربية، ومستبطنة فيها بوضوح، غير أن المفهوم المعاصر لكلمة (التعايش) بات ذا صخب وجدل شديد؛ جعل بعض المهتمين الإسلاميين يحسّون بأن هذا الكلمة حُقنت بمفاهيم ذات دلالات سلبية شائعة، تجعل الشريعة كلأ مباحا، وهناك تخوفٌ من أن هذا المفهوم قد يكون خلفه تذويب لأسس الإسلام، وتقديم أنصاف العقائد وخليط من الإسلام، وهذه دعاية مسيئة بحق للوجه الإيجابي لهذا المفهوم، ودعاية مسيئة بحق الإسلام، إضافة إلى أن نسبته إلى الفكر الغربي الذي أشاعه بهذا الاسم أوجد شيئا من التخوف المشروع بأن ترويجه الغربي تم بإرادة متنفذة؛ لتغييب القيم الإسلامية، وإدماج المشرق مع الغرب وذوبان هويته، وعلى تقديرنا لهذا التحفظ غير أن انتشار المفهوم بهذا الاسم (التعايش) في أدبيات مختلفة لا ينفي إطلاقا أساس المعنى المحفوظ والمعترف به والمقدم في النصوص الإسلامية.
إنه لا ينبغي التحفظ من هذا المصطلح أو غيره لكونه محقونا أو مشحونا؛ إذ لا مشاحة في الاصطلاح - كما قيل، ويفترض أن يكون التعامل معه بهدوء وواقعية؛ برده إن كان خطأ، وفرزه إن كان قابلا، وهذا ما يدعونا إليه الدين الإسلامي وقواعده، ذلك أن (الْكَلِمَة الْحِكْمَة ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ، فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا)، رواه الترمذي، وقال: غريب.
إن المفهوم السلبي للتعايش بمعنى التنازل عن العقيدة أو تقديم نصف عقيدة أو بعض دين مرفوض تحت أي مسمى جاء به، «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ» (البقرة: من الآية 85)، بيد أن المفهوم الإيجابي له بالتوصل إلى مستويات أخلاقية في الحوار والاتفاق على أسس العيش والتصالح، وتقدير الاختلاف، والاعتراف به، والاعتراف بالتعددية؛ أمر جاءت به الشريعة الإسلامية، ومن الجدير بالتنبيه عليه أن القرآن الكريم جاء بمصطلحات ربما تكون أوسع معنى، وأشمل تعاملا من مصطلح التعايش، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا» (الحجرات: من الآية 13)، فلفظ «التعارف» ليس مقصورا على الاسم والقبيلة، إنما هو خطاب للبشرية بالمعنى الواسع في تبادل المعارف والعلوم والمحاسن والفضائل.
ويقول تعالى: «وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ» (المائدة: من الآية 2)، فالتعاون على الخير والمصلحة مفهوم شرعي ناصع، متفق عليه، سواء مع الموافق أو المخالف؛ لأنه تعاون على معنى صحيح، وهو البر والتقوى، وليس الإثم والعدوان، وذلك المفهوم (التعاوني) و(التعارفي) في غاية التبشير للناس، وتقديم أفضل القيم التي ترفع بني الإنسان، وتقربهم من هداية الله بدينه العظيم (الإسلام).
ومن المقرر أن أوضاع البشرية وأحداثها وقانون الاختلاف هي بإذن الله القدري الكوني، «وْلو شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُوا»، «وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ» (هود: 118 - 119)، وذلك الاعتراف بالاختلاف والتعدد يحمل في داخله معرفة ضرورية بوجود الشر والخطأ و... إلخ المجافية لقيم الفضيلة والأخلاق والتقوى، وليس معنى التعايش قبول هذه الأوضاع السيئة وتبريرها بطريقة منطقية، ولا إبطال قانون المقاومة، والدفع بالتي هي أحسن، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... فهذه قيم شرعية ثابتة، لا مزايدة عليها.
إن معنى التعايش هو قبول التصالح الدنيوي والوجود والجوار في الاتفاق على جملة من الأخلاق الإنسانية التي تتيح فرصة لتبادل الحوار والإقناع.
والمؤمن مُصلحٌ آمرٌ بالمعروف والخير، ناهٍ عن المنكر والشر، حريص قدر المستطاع على دفع الباطل بالحق والجهل بالعلم... عارف بمواقعه، معتدل في رؤيته للإصلاح، فالرؤية المثالية التي يحمل بعضنا الناس عليها هي بمثابة حملهم على جبل وَعْر، والناس فيهم الضعيف والكبير وذو الحاجة والمختلف والمتفق؛ من قد لا يتحملون ذلك.
ولَمَّا حَاصَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الطَّائِفَ فَلَمْ يَنَلْ مِنْهُمْ شَيْئا قَالَ: (إِنَّا قَافِلُونَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ). فَثَقُلَ عَلَيْهِمْ - يعني الصحابة - وَقَالُوا نَذْهَبُ وَلاَ نَفْتَحُهُ!
فَقَالَ: (اغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ)، فَغَدَوْا فَأَصَابَهُمْ جِرَاحٌ.
فَقَالَ: (إِنَّا قَافِلُونَ غَدا إِنْ شَاءَ اللَّهُ).
فَأَعْجَبَهُمْ، فَضَحِكَ النَّبِي (ص).
ومن الافتئات على مقاصد الشريعة ودعوة الإسلام أن تصطفي مجموعة نفسها تحت أي مسمى، تحتكر الصواب، والرؤية الصائبة المطلقة، وتعتبر الخارج عن سلطتها مفتونا حلال الدم أحيانا، معلنة عن بيعة ملزمة عندها هي مفرق الحق من الباطل بين الناس، وهذا أنموذج هو في نفسه فتنة، ولا عهد لنا به في الشريعة الإسلامية التي حقنت دماء من لا يؤمنون بها أصلا، من يهود ونصارى وغيرهم، بموجب عقد واتفاق على مر عصور التاريخ.
إن النموذج العظيم للتعايش هو أنموذج المدينة المنورة، عاصمة الإسلام، وحامية بيضته وحوزته، ومنطلق دعوة آخر الأنبياء (ص) ففي مرحلتها الأخيرة وفترة التمكين شاء الله ألا تكون المدينة للصحابة والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار فقط، بل شاء أن يشاركهم فيها اليهود والوثنيون والمنافقون وضعفاء الإيمان، جنبا إلى جنب، بل وشاء الله أن يموت رسول الله (ص) ودرعه مرهونة عند يهودي، كما في الصحيحين، في إشارة إلى أن هذا المعنى محكم ثابت، لا يمكن نسخه أو العبث فيه.
إن التعايش هو نوع من التعاون والتعارف في المشترك الحضاري والإنساني، وتبادل الخبرات التي تعين الإنسان على عمارة الأرض، ونشر قيم الخير التي يتفق الناس على الاعتراف بها، وذلك كله نوع من فتح المجال لنشر الإسلام ودعوته، وذلك كله لا يعني الدعوة لأفكار المختلف أو شرعيته دينيا، بل القبول في التعايش الدنيوي لفتح الحوار دينيا ودنيويا.
والصحابة (رض) أدركوا أنهم أصحاب ديانة تختلف جوهريا عن الديانات الأخرى، فالفارق عميق وأصيل وراسخ في العقيدة والإيمان والكتب والعبادة... لكن ثمة معنى مشترك، ومصلحة دنيوية جامعة أحيانا «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضا أَرْبَابا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» (آل عمران: 64).
والرسل هم أعظم الخلق إيمانا، ومع ذلك عايشوا قومهم على رغم الكفر المطلق والإيمان المطلق، فنوح - عليه السلام - مكث ألف سنة إلا خمسين عاما في قومه، يقول الله جل وعلا: «قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارا* فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاّ فِرَارا* وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارا* ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارا* ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارا* فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارا» (نوح: 5-10)، فهو يدعوهم، ويجادلهم بالتي هي أحسن، وبالحوار الهادئ الموضوعي الذي من خلاله يصل الحق إلى أصحاب العقول السليمة، وهذا جزء من التعايش.
إن التعايش لا يعني ترك رأيك الخاص الفردي، فضلا عن عقيدتك ودينك، فالرأي الذاتي هو جزء من شخصية المرء، ولا يملك أحد أن يطالب الآخرين بتغييره أو مخالفته، إلا أنه يبقى في النهاية مجرد رأي شخصي، والمطلوب هو التخلي عن التعصب المحتقن، والانفعال الجاري في غير قناته، وإحلال الحوار والدعوة بالتي هي أحسن محله؛ فالتعايش ترك التعصب للرأي والإكراه فيه، لا ترك الرأي نفسه أو المساومة عليه، وبين هذا وذاك بون عظيم.
إقرأ أيضا لـ "الشيخ سلمان بن فهد العودة"العدد 2534 - الخميس 13 أغسطس 2009م الموافق 21 شعبان 1430هـ