العدد 2254 - الخميس 06 نوفمبر 2008م الموافق 07 ذي القعدة 1429هـ

من أسباب إخفاق النهضة العربية

عود إلى بدء

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

انقسام النخبة المشرقية (الشامية) أهليا وتوزعها طائفيا على نظام «الملل والنحل» تأسس عمليا على آليات الواقع العمراني (الاجتماعي) الموروث في ظل فضاء من التحولات الدولية فرضتها عنوة التدخلات الأجنبية (الخارجية). وهذه الخلاصة النظرية توصل إليها الكثير من الباحثين في التاريخ الاجتماعي للمشرق العربي. فالباحث جلال أحمد أمين أشار في كتابه «المشرق العربي والغرب» إلى دور «المؤثرات الخارجية في تطور النظام الاقتصادي العربي والعلاقات الاقتصادية العربية» مشيرا إلى انعكاساتها السلبية وعرقلتها لتلك المحاولات الاستقلالية. (ص 15 - 32)

ولاحظ الباحث خالد زيادة أن التأثير الأوروبي على العثمانيين أخذ شكلا جديدا في عهد السلطان سليم الثالث (1789 - 1807) حين حاول أن يقلد الطراز الأوروبي في إدارة الدولة. ويرى الباحث وضاح شرارة أن معاهدة 1838 التي فرضتها أوروبا على السلطنة ساهمت في فتح الأسواق الداخلية أمام التجارة الأوروبية ما أدى إلى انهيار كل محاولات الاستقلال الاقتصادي في فترات متقاربة (فشل تجربة محمد علي لاحقا).

تأثير العوامل الخارجية لم تبدأ خطوتها الأولى في استخدام القوة العسكرية وإنما جاءت نتاج تطور عمراني - معرفي سلكته أوروبا بعد توصلها إلى تحقيق اكتشافات جغرافية أدت إلى تعطيل خطوط التجارة القديمة وإضعاف دور الوسيط - المسلم في التحكم بالقوافل المتوجهة إلى الشرق (طريق الحرير). هذا التغيير في طرق المواصلات البحرية والبرية عزز قوة أوروبا الاقتصادية واستقلالها السياسي وأعطاها فرصة لتطوير قدراتها العسكرية مقابل تراجع دور المدن القديمة والممالك المسلمة ما أدى إلى تلاشي موقعها في التوازن الدولي.

الخطوة الأولى بدأت في الجغرافيا (السفينة) إذ أدت إلى موات «طريق الحرير» وتحديدا بعد فتح القسطنطينية (اسطنبول) في عهد السلطان محمد الفاتح في سنة 1453م (857هـ). (طريق الحرير، ايرين فرانك وديفيد براونستون، ص 342 - 345).

بعد الخطوة الأولى جاءت الثانية متأخرة نحو قرن ولكنها كانت كافية زمنيا لتأسيس نموذج أوروبي متقدم اقتصاديا على الطراز العثماني التقليدي. فالنموذج الجديد أخذ يفرض شروطه السياسية على القديم وأملى على السلطان العثماني سليمان القانوني توقيع اتفاق «الامتيازات الأجنبية» مع الملك الفرنسي في العام 1536 ما أعطى حرية للدول الأوروبية في اختراق السوق التجارية والتعامل مع المجموعات الأهلية (الأقليات) من دون رقابة من السلطنة.

النموذج المتقدم كان خطوة ثانية تلته ثالثة حين فشلت آخر محاولة عثمانية في محاصرة فيينا ما أدى إلى بداية تراجعها العسكري عن أوروبا الشرقية في العام 1683. وبعد هذه المرحلة ستظهر على السياسة الدولية تحركات عسكرية من الشرق (روسيا القيصرية) ومن الغرب (فرنسا وبريطانيا) تتنافس على «المسألة الشرقية» أو ما أطلق عليه تركة «الرجل المريض».

ساهمت هذه الضغوط الدولية (الجغرافية - العسكرية) في توليد الحاجة نحو البحث عن التقدم. إلا أن التعامل مع تلك الحاجة اختلف بين الدولة والمجتمع. فالسلطة (السلطنة) كانت تركز على تحديث مؤسسات الجيش لتأمين القدرات العسكرية القادرة على الدفاع عن الحدود في الجبهات والثغور. والمجتمع (الجماعات الأهلية) كانت تركز على الهوية والخوف عليها من الاختراق والاستلاب. وشكّل هذا التعارض بين حاجات الدولة (التحديث الفوقي) وحاجات المجتمع (النمو التاريخي) نقطة افتراق في التعامل مع «الحداثة» ووظائفها. فهناك من شجع عليها ودعمها نظريا وهناك من تخوف من نتائجها العملية ما أدى إلى نمو دعوات تطالب بالعودة إلى الإسلام والسلف الصالح.

الإحساس بالضعف بدأ ينمو قبل الحملة الفرنسية على الشرق (بونابرت) وجاء أساسا نتاج الحاجة، ولكنه انقسم أهليا بسبب الاختلاف في الرؤية ما أدى إلى تذبذب محاولات التحديث وتبعثرها بين الطوائف والمذاهب.

الانقسام الأهلي (الملل والنحل) في إطار النخبة المشرقية عطّل إمكانات نمو «الفكر العربي المعاصر» في سياق تاريخي - معرفي متوازن. فالانقسام أثار تشنجات وتحفظات ارتسم لاحقا في إطارات أيديولوجية عززت النزعة المثالية في قراءة أسس التقدم وأضعفت إمكانات التطوير والإبداع في مجالي العمران والمعرفة. حتى فكر رجال «النهضة العربية» التي لم تظهر تاريخيا، تأسس على مجموعة منطلقات كانت مترددة في الاختيار وحائرة في ترسيم خريطة طريق واضحة المعالم في رؤية المستقبل. فالرؤية انشطرت دينيا وطائفيا ومذهبيا ولم تتوفق تلك المحاولات النظرية في تركيب صورة مشتركة توحد المصير والأهداف حين أخذت النخبة الشامية في إصدار صحف تطالب بالوحدة الوطنية أو تأسيس جمعيات ومنتديات تدعو إلى الوحدة القومية.

هذا الانقسام الأهلي «الحديث» تكيّف مع نظام «الملل والنحل» القديم وبدأ من خلال انشطاراته المتوارثة يوّلد نزاعات سياسية عطّلت سيرورة «النهضة العربية» في فترات لاحقة. فالفكر العربي المعاصر تأسس على خلفية عصبية خلطت الديني بالقومي والقومي بالطائفي والطائفي باللغة العربية. وهذا التفكك أشار إليه البرت حوراني في بحثه عن فكر النهضة ولاحظه هشام شرابي في دراسته عن علاقة المثقف العربي بالغرب. كذلك أكدته الدراسات التاريخية المعاصرة حين رسمت اختلاف تطلعات النخب المسيحية عن تطلعات النخب المسلمة في «المشرق العربي». فالمؤرخ وجيه كوثراني لاحظ هذه المسألة على المستوى السياسي حين أكد أن النخب المسلمة ظلت معارضة للتجزئة والانفصال عن السلطنة حتى العام 1915. كذلك لاحظ وضاح شرارة المسألة على المستوى الإداري حين أشار إلى استبعاد السلطنة العناصر غير المسلمة عن الأجهزة العليا أو تملك الأرض منذ القرن السادس عشر. وأيضاَ لاحظ المؤرخ مسعود ضاهر هذا الاختلاف على مستوى الدور الاقتصادي حين أخذت الفئات المسيحية تلعب دورا تجاريا في استيراد البضائع. وبالاتجاه نفسه لاحظ برهان غليون ذاك الاختلاف السياسي بين الجماعات الأهلية على المستوى الايديولوجي إذ أخذت الطوائف المسلمة تركز منذ نهاية القرن التاسع عشر على الهوية والعودة إلى الماضي خوفا من الاختراق الأجنبي واستلاب التراث وتحطيمه.

كل الاختلافات المذكورة أسست على المستويات السياسية والإدارية والاقتصادية والأيديولوجية انقسامات أهلية في رؤية عوامل التقدم وأسس النهضة وتعامل الأمة مع الغرب وأدوات التحديث ودورها في تفكيك الوحدة. وهذه الاختلافات تفسّر إخفاق «النخبة المشرقية» في تحقيق التقدم التاريخي وإنجاز النهضة الموعودة.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2254 - الخميس 06 نوفمبر 2008م الموافق 07 ذي القعدة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً