جدار الفصل المذهبي الذي بدأت قوات الاحتلال الأميركية تشييده حول الأعظمية يعتبر فضيحة سياسية في كل المعايير الأخلاقية والإنسانية والدولية. فالجدار لا يقتصر على الأعظمية وإنما هو جزء من مشروع أمني يريد عزل الأحياء في بغداد في «غيتوات» طائفية تفصل المناطق الأهلية عن بعضها ويشمل الدورة والعامرية والعامل والعدل في جانب الكرخ ومدينة الصدر من جانب الرصافة.
هذا التقسيم الأهلي لسكان بغداد يشبه جدار الفصل العنصري الذي دشنته حكومة ارئيل شارون لعزل الشعب الفلسطيني ومحاصرته في «كانتونات» بذريعة الحد من العمليات الاستشهادية. فالذريعة الإسرائيلية كانت أمنية كذلك الذريعة الأميركية ولكن الوقائع تشير إلى وجود منهجية تفكيكية تريد منع التواصل بين الناس وتركيب فواصل وحواجز وقواطع تمنع الاتصال وتعطل على السكان العيش بسلام ومن دون قلق وتوتر.
التقسيم الأهلي في فلسطين والعراق وعزل الناس ومنعهم من الاتصال والتواصل يتجاوز الذرائع الأمنية وتلك الهواجس السياسية الناجمة أصلا عن الاحتلاليين الصهيوني والأميركي. فالتقسيم هو نموذج مصغر عن تلك السياسة التقويضية التي باشرتها إدارة جورج بوش منذ إعلان الحرب على المنطقة العربية - الإسلامية قبل ست سنوات. كذلك قد تكون صورة أولية عن ذاك «النموذج الديمقراطي» الذي وعد بوش شعوب المنطقة بتأسيسه في بلاد الرافدين ليشكل «جاذبية حضارية» في دائرة سياسية أو محيط بشري اعتبرته إدارة واشنطن يعيش في حالات تخلف وظلامية واستبداد تشجع على نمو التطرف والكراهية والإرهاب.
سياسة التقويض إذا لم تنتهِ فصولها. فهي تبدأ بتحطيم الدولة وإطلاق موجة عنف تؤدي إلى فوضى عامة واقتتال أهلي ثم تنتهي بتحطيم المجتمع وتمزيقه وإعادة تسويره بجدران عازلة تؤسس «جمهوريات» طوائف ومذاهب ومناطق متقاتلة. وهذه السياسة المكشوفة تحاول إدارة بوش تسويقها داخليا وتزيينها دوليا في اعتبارها تتكفل بمنع التصادم الأهلي وتحد من عنف الطوائف والمذاهب.
إنها فضيحة سياسية، وإدارة الرئيس تحاول تقديمها بوصفها أنجع الحلول ابتكرتها المخيلة الأميركية لتسهيل نجاح خطة أمنية أشرف على وضعها مدير مخابرات سابق ووزير الدفاع الحالي روبرت غيتس. فالكانتونات (الغيتويات) الطائفية والمذهبية والمناطقية أصبحت الآن البديل الواقعي والموضوعي عن ذاك «النموذج» الحضاري الديمقراطي الذي توقعت واشنطن أنه سيكون «المثال» الذي سيحتذي في منطقة «الشرق الأوسط».
هذا النموذج (المثال) لم يعد سرا كما أخذت خطابات الرئيس والإدارة وقادة الحزب الجمهوري تعلن عنه في سياق الرد الداخلي على اعتراضات الحزب الديمقراطي والكثير من مراكز القوى في الشارع أو المؤسسات الرسمية الأميركية. فالاجتماع الذي دعا إليه الرئيس بوش الأربعاء الماضي في «البيت الأبيض» وضم قادة الحزبين انتهى إلى الفشل وأظهر وجهات نظر متعارضة في تقييم مجرى الحوادث الدموية في بلاد الرافدين.
الحزب الديمقراطي لا يمانع الموافقة على موازنة الحرب لتغطية نفقاتها في العام 2007 ومطلع العام 2008 ولكنه يشترط من الرئيس أن يعد (مجرد وعد) بأنه سيضع خطة تجدول الانسحاب التدريجي من العراق. الرئيس بوش رفض الالتزام بأي وعد وهدد باستخدام «الفيتو» الرئاسي في الأسبوع المقبل في حال أصرت غالبية أعضاء الكونغرس على موقفها.
النموذج الفيتنامي
اجتماع الأربعاء الماضي انتهى إلى خلاف. والخلاف كان مناسبة لإطلاق تصريحات وخطابات ومواقف كشفت بوضوح عن وجود رؤيتين سياسيتين في قراءة النتائج الميدانية التي أطلقتها استراتيجية التقويض في «الشرق الأوسط».
رؤية الديمقراطي (السناتور هاري ريد) تشير إلى أن «هذه الحرب خاسرة». وبناء على هذا الاستنتاج يطالب الديمقراطي بالامتناع عن المعاندة وعدم التورط والانسحاب المنظم والمتدرج حتى لا يدفع الشعب الأميركي المزيد من الخسائر البشرية والمالية كما حصل في فيتنام قبل ثلاثة أو أربعة عقود.
الحزب الديمقراطي توصل إلى هذا الاستنتاج من طريق عقد المقارنة بين المسارين الفيتنامي والعراقي. ففي فيتنام كان يمكن تجنب المزيد من الخسائر لو قرر الرئيس ليندون جونسون الانسحاب المبكر في الستينات ولكنه فعل العكس لتوريط الرئيس الذي يأتي بعده بالمسئولية. وكانت النتيجة أن الانسحاب من فيتنام تأجل إلى العام 1975 وأدى إلى سقوط أكثر من 58 ألف جندي خلال 12 سنة من الحرب.
رؤية الجمهوري (الرئيس جورج بوش) تؤكد على إمكان كسب الحرب في حال نجحت خطته الأمنية الجديدة. وأن الفشل لم يحصل بعد برأيه وإنما «الانتصار» يحتاج إلى وقت للظهور على الأرض. والوقت وفق رؤيته هو الكفيل بحماية «ديموقراطية» ناشئه بحاجة إلى رعاية وبعض الصبر.
الحزب الجمهوري توصل إلى هذا الاستنتاج الخطير من طريق عقد مقارنة بين فيتنام والعراق أيضا. فالاحتجاج بالنموذج الفيتنامي لا يقتصر على طرف المعترض على الحرب وإنما أيضا يأخذ به الطرف المؤيد لاستمرار الحرب وعدم الانسحاب السريع والمبكر.
الذريعة التي تمسك بها الرئيس بوش لرفض المطالبة بالانسحاب جاءت خلال خطاب ألقاه في اليوم التالي لفشل الاجتماع الثنائي في البيت الأبيض. فالرئيس أشار في ذاك الخطاب الذي ألقاه في أوهايو إلى سلبيات الفراغ الأمني/ الأهلي الذي أحدثه الانسحاب الفوضوي وغير المدروس بعد سقوط سايفون في 1975.
كلام الرئيس الأميركي خطير جدا وتجب قراءة عناصره أكثر من مرة لفهم معاني تلك التنبيهات التي كررها في الخطاب. فهو تحدث عن مخاوف من نشوب حروب أهلية وإقليمية تودي بحياة ملايين البشر على غرار ما حصل في لاوس وكمبوديا وفيتنام بعد الانسحاب الأميركي. فالانسحاب برأيه ليس نهاية الحرب وإنما يحتمل أن يفتح المنطقة على تصفيات ومجازر ومذابح أهلية كما حصل في فيتنام ولاوس وكمبوديا داخليا تلتها تلك الحروب التي وقعت إقليميا بين فيتنام وكمبوديا ولاوس وكمبوديا ثم بين فيتنام والصين على الحدود الشمالية.
تذكير بوش الحزب الديمقراطي بنتائج فشل حرب فيتنام وتداعيات الانسحاب الأميركي المبكر والسريع والعشوائي يشير إلى احتمالات كثيرة وخطيرة. فهو يقر بوجود خسائر ميدانية وبشرية وكلفة مالية في حال استمر الاحتلال إلى فترة إضافية وفي الآن ينبه إلى وجود مخاطر تدميرية قد تجتاح العراق ودول الجوار إذا قررت واشنطن الانسحاب من دون ترتيبات تضمن عدم انجرار بلاد الرافدين والأقاليم المحيطة به إلى مواجهات دموية وجوارية كما كان أمر دول جنوب شرق آسيا في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي.
كلام بوش في أوهايو عن مخاطر ما بعد الانسحاب من فيتنام يؤشر على احتمالين: الأول أن إدارته لا تفكر أو تخطط لموضوع الخروج قبل تسجيل نقاط لمصلحة الاحتلال حتى لو كلف الأمر المزيد من التضحيات والنفقات. والثاني أن إدارته إذا فكرت أو خططت للانسحاب فإنها لا تتحمل مسئولية النتائج الكارثية المتوقعة من الفراغ الأمني والفوضى السياسية وربما اندفاع قوى الجوار إلى تثبيت مواقعها في بلاد الرافدين.
في الاحتمالين لا يبدو بوش في موقع الحريص على «النموذج الديمقراطي» في العراق وليس مكترثا بثروات المنطقة وشعوبها ومستقبلها. وإنما الحرص يأتي احتجاجا على تلك المعارضة الداخلية لحربه التي لم تعد شعبية في الشارع كما أشارت استطلاعات الرأي الأخيرة.
المثال الفيتنامي الذي قدمه بوش ردا على المثال الفيتنامي الذي استعرضه الحزب الديمقراطي يشير إلى وجود نموذجين فيتناميين للحال العراقية. الأول يقول به أنصار معارضة الحرب ويؤكد على ضرورة الانسحاب السريع لتخفيف الخسائر الأميركية. والثاني يقول به أنصار الحرب ويؤكد على وجوب تأخير الانسحاب وترتيبه لتخفيف الخسائر الكارثية المتوقع حصولها في العراق ومحيطه السياسي والجغرافي.
هذا السجال «الفيتنامي» بشأن العراق يفتح الباب أمام أسئلة مخيفة تنتظر المنطقة في المستقبل القريب أو البعيد. ومثل هكذا أسئلة يمكن قراءة بعض تفصيلات عناوينها من سياسة التقويض التي بدأت بهدم الدولة في بلاد الرافدين وأخذت تنتقل الآن إلى تفكيك العلاقات الأهلية ومحاصرة أحياء بغداد بجدران فصل مذهبي تؤسس لنوع من «جمهوريات» الطوائف والمناطق لعراق جديد (نموذجي) وعد بوش بإقامته ليكون ذاك المثال الذي يحتذى في المحيط الإقليمي.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1690 - الأحد 22 أبريل 2007م الموافق 04 ربيع الثاني 1428هـ