العدد 1690 - الأحد 22 أبريل 2007م الموافق 04 ربيع الثاني 1428هـ

خذوا الحكمة من شنقيط و«الجزمة» من «إسرائيل»!

خالد المطوع comments [at] alwasatnews.com

من منكم توقع أن تكون الشقيقة العزيزة موريتانيا السمراء، والمتموقعة جغرافيا في الركن القصي من المغرب العربي، والمحاذية لأطراف الأطلسي، هي صاحبة التوقيع الذهبي الأول عربيا في التحول الديمقراطي السلمي والرزين من بين جميع الدول العربية الأخرى، ولا سيما تلك الواقعة في المشرق العربي، إذ قلب التحولات، وغليان العناصر الطائفية والإثنية المطبوخة على نار أميركية وصهيونية هادئة، أو من دول «المركز» العربي والإسلامي التي كانت ومازالت تفاخر باحتضانها التاريخي لأعرق وأعظم المراكز والرسالات الحضارية الإنسانية عالميا، وأعتق الأنظمة الاستبدادية والشمولية؟!

تجربة التحول السلمي إلى الديمقراطية في موريتانيا أو بلد المليون شاعر أتت بل وحلت علينا بغتة كقصيدة قهوية منعشة، قصيدة موزونة بالغة الإرهاف والفصاحة اللغوية، خطرت بغتة بهالتها في البديهة العربية التي لطالما ظلت عصية على المراودات الديمقراطية!

فبمثل تلك الأداة العسكرية والسحر الانقلابي ذاته، والذي لطالما كرس الاستبداد، ومصادرة الحريات، والتضييق على مشاركة الإرادة الشعبية والمجتمعية الموريتانية في إدارة شئون الدولة وسياساتها الداخلية والخارجية تم الانتهاء من أسوأ أنظمة الحكم في تاريخ موريتانيا المعاصر، وإلقائه بكل هدوء، ودون سفك دماء وسفح ثارات، في مزبلة التاريخ!

وهو ما لم يطرأ قط في أكثر الأحلام وردية لسجناء الحق والحرية والرأي، والذين تغص بهم زنازين العالم العربي تحت رحمة أنظمة الغنيمة العربية وعروش البؤس الراهن.

ببساطة فعلها الموريتانيون، وهم الأقحاح أصحاب تلك الأطراف المتوهجة بالعروبة والإسلام لا يمكن أن يخضعوا للمزايدة والابتزاز من غيرهم من أنظمة دول المركز والثقل العربي التي باعت القضية وأمها، وشهدت أزهى أحلام المواجهة العربية، وأشر نكباتها، وأحط وظيفيتها الانتهازية للذراع الصهيوني الوظيفي.

لم يكن الموريتانيون بحاجة إلى وافر غزير من لعنة النفط السوداء بكامل ريعها الكافل للمواطنة، وبما تطرحه من حقوق وخدمات ومصالح وامتيازات على حساب حرية الإرادة الشعبية والسيادة الاستقلالية للسياسة الداخلية والخارجية.

كما أنهم وقعوا تحت رحمة الله حينما لم يأمرهم إلهام شيطاني باللجوء إلى الاستقواء بالخارج الفرانكفوني أو الأميركي والصهيوني، فنظام ولد الطايع الساقط كان غارقا حتى أذنيه في وحل التطبيع مع الكيان الصهيوني، الذي لم يعد على موريتانيا بأية فائدة وجدوى واقعية تذكر!

كما أن معظم النخب الموريتانية والقيادات الحزبية والسياسية من أقصى اليمين، وهلم جرا إلى اليسار، لم تراهن يوما على تسول وشحذ الديمقراطية من فرنسا أو الولايات المتحدة الأميركية، فأبناء البلد نخبا وعواما، قيادات وأتباع وجماهير لم ينفضوا عن الاجتماع على حل المشكلة داخليا، واللجوء إلى ترياق الانقلاب العسكري، وهو ذاته الذي أذاقهم سابقا شر الويل حينما حكمهم نظام اتبع سياسة داخلية وخارجية لا تواكب انتماءات وتوجهات وتطلعات نخب وأفراد المجتمع الموريتاني، فاستحق ذلك النظام الطفيلي شر طردة من البلاد بوصول العقيد المثقف اعل ولد محمد الفال رئيس الاستخبارات (سابقا) ومدبر الانقلاب العسكري إلى سدة الحكم، فقطع وعدا بتمكين الإرادة الشعبية في البلاد وإعادة الحياة الديمقراطية الفقيدة إليها في خلال فترة زمنية، ففاجأ العقيد وقد أنموذجا نبيلا حينما نفذ وعده وزاد عليه تقديما على عكس القادة العرب، ليتيح الفرصة للشعب الموريتاني المحروم مزاولة حقوقه المسلوبة منه، ومنحه خياراته المستحقة.

ما كان الموريتانيون بحاجة إلى التخلي عن انتمائهم القومي والإسلامي، كما فعل البعض ذلك وخسر عنب الشام وبلح اليمن، فطالما توفرت لديهم إرادة التغيير ينال الموريتانيون ديمقراطيتهم المستحقة دونما حاجة إلى التخلي عن روح اعتزازهم العربية القومية والإسلامية، وبيع ثوابتهم، ومن دون إصغاء واهتمام بنعيق بعض المتلبرلين أو»المتبربرين» الجدد الذين رحبوا وأشادوا سابقا بنموذج الديمقراطية تحت أحذية المارينز والوصول إلى سدة الحكم فوق دبابة أميركية، وراهنوا قبلها على ريادة ونجاح التجربة العراقية التي لم تصدر حاليا إلا عنف الأزمات والرياح الطائفية المسمومة بفضل الاحتلال وعملائه، ومن قبله نظام صدام حسين الذي مهدت خطاياه الاستراتيجية الكبرى لاستراتيجية التدمير الفوضوي «البناء» التي أطلق البعض عليها استخفافا بـ «حرب التحرير».

كم تمنينا لعراقنا الذي تقطع أشلاؤه حاليا في مسالخ الفدرلة نموذجا استباقيا مشابها للنموذج الموريتاني، عسى أن تعصم الدماء والأرواح، وتحفظ الذاكرة الحضارية للعراق، حينما صفق ورحب العالم، ولو أحيانا بشيء من التحفظ بالمبادرة الأميركية الصهيونية لغزو العراق واستباحته على آخره، في حين أدان العالم ذاته بما فيها المنظمات الاتحادية الدولية الانقلاب الذي أطاح بنظام معاوية الطايع، إلا أنهم اضطروا بعدها للتراجع والانصياع لإرادة الشعب الموريتاني، ولقادة الانقلاب من العساكر الذين قطعوا الوعود الديمقراطية المقدسة ونفذوها، بل وزادوا في استعجال تنفيذها كما لو أنها قسم الجندية!

وهي صدفة ومفارقة غريبة في التاريخ العربي المعاصر أن يكون فيه العسكر لأول مرة سادة التحول المدني الديمقراطي وإعادة الرباط بين المجتمع والدولة بهدف توحيد الإرادات، وذلك مقارنة بتجارب مشهودة في مصر «ثورة الضباط الأحرار» وليبيا «ثورة الفاتح» وغيرهم، والتي لا ننكر أن لكلا منها شروطه وسياقاته الموضوعية الخاصة به.

نحن كشعوب عربية مهمشة بحاجة إلى تأكيد وتشديد اعتذارنا الحار للشعب الموريتاني الشقيق، وعلى رأسه قيادته الشرعية المنتخبة ديمقراطيا، وذلك بسبب تغيب الزعماء العرب عن الحضور إلى حفل تتويج الرئيس الموريتاني الشرعي سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله رغم كونها أنظمة غنيمة عربية وعروش بؤس راهن تخلف بوعودها، ولا تمثل شعبها حقيقيا، فهي تصادره، أو تضعه تحت رحمة الهامش السلطوي، فكيف إذا يتوقع ممن أدمن الرضاعة من أثداء الكراسي، ومن نهب ثروات البلاد والشعب، ومن ابتدع في الإخلاف بالوعود أن يحل ضيفا على أصحاب ومنفذو الوعود ممن يحترموا ذاتهم وشعوبهم، فهل يستويان في ذلك؟!

لم يكن حضور هذه الأنظمة الفاقدة الشرعية إلى حفل تتويج عربي شرعي إلا بمثابة دعوة لهم إلى زيارة كابوس مريع، فقد سبق وأن فعلوها منتقدوا السلطة والسيادة على أنفسهم قبل غيرهم، وذلك حينما عقدت القمة العربية واللاتينية المشتركة بحضور عربي محرج أثبت عدم جدارة هذه الأنظمة بالتقدير والاحترام عبر مساواتها بأنظمة أميركا اللاتينية المنتخبة وهي الأنظمة الديمقراطية والشرعية، التي تروم دورا دوليا أكثر استقلالية ومحايدة عالميا.

وإن كان التغيب لدعاوى أخرى ومنها الاستخفاف والتهميش المقصود والمعتاد للكيان الموريتاني القصي، ففي موريتانيا الديمقراطية الجديدة من كثبان الرمال و «الطعوس» ما يكفي لسد أفواه وسمل عيون جميع أنظمة الغنيمة العربية وعروش البؤس الراهن، التي لم تتجرأ قط على تصحيح مفاصلها الدكتاتورية الهشة، ومعالجة المستويات الشحيحة للشرعية في تربتها!

وهي على العكس والنقيض من النظام الموريتاني الحالي، لكونها تستقي تراب وفتات شرعيتها من الجزمة الأميركية و الصهيونية، وتصطنع بريق أكتافها البالية من غبار الرجعية، لذا سيظل النظام الموريتاني مبعوثا سفيرا أو رسولا ربما غريبا وسط غالبية عظمى من أنظمة تبدو قشرية ودهماوية متخلفة مقارنة بما تحصَل عليه النظام الموريتاني من شرعية وآلية سيادية متميزة عبر قنوات متقدمة، وخصوصا مع موقف القيادة الموريتانية الشرعية الجديدة تجاه التطبيع مع الكيان الصهيوني، والذي يبدوا متجها إلى قطع العلاقات مع الكيان الصهيوني، لكونها لا تشكل أية ضرورة سياسية واستراتيجية محتملة، كما أنها تقف ضد الإرادة الشعبية الموريتانية المتمسكة بثوابتها القومية والإسلامية، وهو بالتالي ما قد يعني مزيدا من العزلة للفارس الشنقيطي في المراعي العربية وسط قطيع من الأنظمة يساق ضربا على أدباره إلى مهاوي التطبيع خلف الراعي والكفيل الأميركي.

وإن كان الكاتب الصحافي المرموق محمد حسنين هيكل قد اعتبر من قبل موريتانيا بأنها تقع على الهامش العربي، وبالتالي ليس لها أي دور وتأثير وثقل حقيقي على القرار العربي، وناله حينها ما ناله من العتب الموريتاني حينها، إلا أن غلطة أستاذنا هي غلطة الشاطر بألف ، وإن كان بها شيء من الصراحة الحادة التي يزعمون، إلا أنها قد تفقد صدقيتها وأهميتها إذا ما أصبح الأنموذج الديمقراطي الموريتاني حلما صحراويا شهيا، وتوطد مركز الثقل في خريطة الأحلام العربية الشعبية الأكثر أنفة وزهوا.

إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"

العدد 1690 - الأحد 22 أبريل 2007م الموافق 04 ربيع الثاني 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً