اتفاق اللجنة الوزارية العربية المكلفة تفعيل المبادرة العربية للسلام على تشكيل مجموعة عمل من مصر والأردن لتوضيح المبادرة في «إسرائيل» ومجموعة عمل أخرى لتسويقها على الساحة الدولية تعتبر خطوة دبلوماسية في الاتجاه الصحيح حتى لو لم تثمر الاتصالات عن نتائج سريعة وملموسة.
التحركات العربية الرسمية باتت ضرورية بعد جمود طرأ على دول المنطقة نتيجة الضغوط الدولية الهائلة التي أعقبت هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 وترافقت معها اتهامات وتهديدات شكلت منافذ للهجوم على العراق وتحطيمه بذريعة مكافحة شبكات الإرهاب. فالدول العربية تتعرض منذ نحو ست سنوات إلى حملة افتراء سياسية شملت مختلف الحقول والمجالات. فهي اتهمت بأنها تمول تلك الشبكات، وبأنها تعتمد مناهج تربوية تعزز نزعة التطرف، وبأنها تتبنى ثقافة تروج أو تساعد على تغذية الإرهاب.
هذه الهجمات العنيفة وضعت الكثير من الدول العربية في مواقع محرجة وخصوصا حين كشفت واشنطن أسماء وهويات وجنسيات بعض من اتهمتهم بالتخطيط والمشاركة في تنفيذ هجمات سبتمبر. إدارة واشنطن استغلت المسألة وبنت عليها سلسلة تصورات أدت إلى حشر تلك الدول في زاوية ضيقة حين طالبتها بإجراء تعديلات على برنامج التربية والتعليم وحذف بعض التوجيهات الثقافية من المدارس.
استمرت حال الدفاع العربية إلى مطلع العام الجاري. وخلال هذه الفترة الصعبة مارست الولايات المتحدة سياسة الإملاءات وتعاملت بفوقية وقلة احترام مع الخطاب العربي الرسمي إلى درجة أن واشنطن تخلت عن أسلوبها التقليدي في التعاطي مع القوى التي كانت تعتبرها صديقة أو معتدلة.
أنتج الهجوم الأميركي الثأري والانتقامي سلسلة مواقف قطعية أطاحت بالكثير من الخطوات الدبلوماسية التي تحققت خلال عهد الرئيس السابق بيل كلينتون. وظهر الهجوم وكأنه حركة انقلابية عسكرية على نقاط كانت تعتبر من ثوابت الاستراتيجية الأميركية تتجاوز رأي الرئيس أو وجهة نظر الحزب الحاكم.
تصرفت إدارة واشنطن آنذاك من موقع طرف قوي تعرض لإهانه وعليه الرد بأسلوب مخيف يردع الصديق قبل الخصم. وبسبب نزوع الإدارة إلى إظهار القوة ارتكبت هفوات وأخطاء وتجاوزات أطاحت بالكثير من الشروط المطلوبة لتعزيز استمرار تلك القوة مع مرور الوقت.
اعتبرت إدارة «البيت الأبيض» في لحظة الهياج أن غالبية الدول العربية خصومها وأن أكثرية دول العالم الإسلامي تقف إلى جانب الإرهاب أو على الأقل تكره الولايات المتحدة وتعادي نمط حياتها وتحسدها على نجاحها. وتحت هذا السقف المحكوم بالانفعال أخذت واشنطن تعيد تصنيف الدول مع أميركا أو ضدها. ثم أعادت ترتيب قائمة الأعداء والأصدقاء والحلفاء وفق صيغة لا تتجانس مع أسلوبها التقليدي السابق فسقطت من اللائحة أسماء دول صديقة وأدخلت إليها مجموعة من الأسماء كانت تعتبر خارج دائرة الحلفاء.
لجأت واشنطن بعد هجمات سبتمبر إلى اعتماد تصنيف جديد في لعبة الأمم حين قررت أخذ الثقافة أو ما تسميه التشابه في نمط الحياة مقياسا للحليف أو الصديق أو العدو. فمن يشبه أميركا في ثقافته وسلوكه وأسلوب حياته هو قريب منها ومن لا يشبه نمط الحياة الأميركية وثقافته هو بعيد عنها ويجب عليه إعادة صوغ سلوكه وأسلوبه ليتناسب مع مقاسات الولايات المتحدة.
هجمة ثقافية
تغليب الثقافة على السياسة ساهم في قلب المعادلات وتغيير الاتجاهات. فلم تعد المصلحة الاقتصادية هي الأساس بل أصبحت تأتي في المرتبة التالية في نظام الأولويات. ولم تعد العلاقات الدبلوماسية التقليدية تشكل الإطار الناظم لمصالح الدول بل أصبح نمط الحياة هو المدخل الطبيعي للتفاهم. وانطلاقا من هذا الفهم الجديد للعلاقات الدولية أسقطت الولايات المتحدة الكثير من الاعتبارات الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية والنفعية من حساباتها الكبرى ووضعتها في مرتبة أدنى تأتي بعد نمط الحياة وتشابه النموذج وتقارب الثقافة.
بناء على هذه التصورات الخرقاء التي وضعها تيار «المحافظين الجدد» خرجت معظم الدول العربية والإسلامية من دائرة الأصدقاء والحلفاء وصنفت غالبيتها في الخانة المقابلة لا لسبب استراتيجي أو اقتصادي أو مصلحي وإنما لسبب ثقافي يتعلق باختلاف نمط الحياة والسلوك الاجتماعي واختلاف النظام السياسي عن ذاك القائم في أميركا.
وعلى أساس هذه التصورات المسيئة جاءت أيضا «إسرائيل» على رأس قائمة الحلفاء والأصدقاء. فهي برأي تيار «المحافظين الجدد» الدولة الوحيدة التي تشبه أميركا في نظامها وسلوكها ونمطها وبالتالي فهي الدولة التي يعتمد عليها في مساعدة واشنطن في حربها العالمية الكبرى على شبكات الإرهاب الدولية التي تمول وتدرب من العرب.
ساهمت هذه التوجهات الانفعالية في رسم سياسة اعتباطية تعتمد نهج القوة للتغيير وتراهن على سرعة الوقت لكسر معادلات استقرت عليها المنطقة نحو نصف قرن من الزمن. كذلك أطاحت هذه الانفعالات بالكثير من الخطوات الدبلوماسية التي أنجزت في عهد كلينتون. فالإدارة الهوجاء أيدت رئيس الوزراء السابق أرئيل شارون في كل توجهاته الرافضة لاتفاقات أوسلو وما تلاها من توقيعات في البيت الأبيض والقاهرة. كذلك أعطت الضوء الأخضر لشارون لتوسيع المستوطنات وبناء جدار الفصل العنصري ورفض مبادرة السلام العربية في بيروت في العام 2002 والرد عليها باقتحام الضفة الغربية وإعادة احتلال غزة ومحاصرة ياسر عرفات في مقره الرئاسي في رام الله.
التصنيف الذي اعتمدته إدارة «المحافظين الجدد» لتحديد هوية الصديق من العدو أدى إلى طرد معظم الدول العربية والإسلامية من لائحة الأصدقاء ورفع مكانة «إسرائيل» إلى رأس القائمة بصفتها قوة إقليمية يعتمد عليها في مكافحة الإرهاب وأيضا لكونها دولة حليفة تتعرض بدورها لهجمات «إرهابية» من «حماس» و «فتح» و «الجهاد» وحزب الله.
وهكذا أدى هذا التحالف النمطي في السلوك والثقافة إلى تصنيف المقاومات العربية والفلسطينية والإسلامية واللبنانية كلها في قائمة إرهابية واحدة مع تنظيم «القاعدة» وحركة «طالبان». كذلك تم إخراج تلك الدول العربية التي وصفت دائما بالاعتدال من لائحة الأصدقاء لكون نمط حياتها يتعارض مع الأسلوب الأميركي في الملابس والأكل والشراب.
بسبب هذه النزعة الانقلابية دفع عرفات ثمن الحصار كذلك العراق و «حماس» والشعب الفلسطيني لاعتبارات تنسب للثقافة ولا علاقة لها بالسياسة والدبلوماسية والمصالح والعلاقات الدولية. كذلك تعرضت الدول العربية لحملة إعلامية ثقافية تطاولت على الدين والأخلاق والمسلكيات والعادات ولم تلتزم تلك الحملات الحد الأدنى من المعايير الإنسانية المعتمدة دوليا في احترام حقوق الإنسان والحق في الاختلاف.
الآن كما يبدو استنفدت هذه السياسة أغراضها وبدأت تصل إلى حائط مسدود وأحيانا ارتدت على صورة أميركا ومصالحها وحياتها الداخلية وكشفت عن سلبيات وثغرات. وتشكل هذه اللحظة فرصة للدول العربية للخروج من العزلة الدولية وكسر تلك الزاوية الضيقة وإعادة طرح المبادرة العربية وتذكير العالم بالظلم الذي لحق بالعرب والمسلمين في السنوات الماضية.
اتفاق اللجنة الوزارية العربية في القاهرة على إعادة تفعيل مبادرة السلام وتكليف وفود بالاتصال لترويج المشروع وتسويقه دوليا وإقليميا يعتبر خطوة دبلوماسية في الاتجاه الصحيح. والأهم من كل ذلك يشكل الاتفاق بداية للخروج من موقع المتلقي للمبادرات والزيارات والإملاءات والهجمات إلى موقع المبادر الذي لا ينتظر وإنما يتحرك لشرح وجهة نظره والدفاع عنها في مختلف المحافل الدولية. فالخطوة صحيحة وعاقلة لأنها تشكل إشارة واضحة إلى وجود تحولات منها أن الدول العربية تخطت مرحلة الضغوط الهائلة عليها وبدأت بالانتقال من الدفاع عن النفس إلى الهجوم الدبلوماسي.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1688 - الجمعة 20 أبريل 2007م الموافق 02 ربيع الثاني 1428هـ