شاركت الأسبوع الماضي في ندوة علمية أقامها المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بمملكة البحرين، وذلك تكريما للمرحوم الشيخ قاسم المهزع، الذي عاصر الفترة ما بين (1263 - 1359 هجرية/ 1847 - 1941 ميلادية) قضى منها أكثر من نصف قرن قاضيا مميزا في البحرين.
ولعل بالإمكان إلقاء الضوء على بعض الأدوار الكبيرة، التي تحمل أعباءها من خلال مراجعة ترجماته، وما قيل في سجاياه وخصائصه، والتي تدل على الشأن الكبير والمقام الرفيع الذي تبوأه بين الناس خاصهم وعامهم حاكمهم ومحكومهم، فمن إنجازاته المهمة جهوده في مجال القضاء، فقد عين قاضيا العام 1875 وكان عمره يومذاك 28 سنة وأصبح - في فترة قياسية - القاضي الذي يقصده الناس من داخل البحرين وخارجها، فكان دءوبا في متابعة قضايا الناس ومرافعاتهم، حتى إنه قال في رسالة وجهها إلى حاكم البحرين الأسبق الشيخ عيسى بن علي: «على إنني لا أعلم أني احتجبت عن متخاصمين أو متعاقدين قلوا أو كثروا في ليل أو نهار أو صحة أو انحراف مزاج».
وقد عرف عنه الصرامة في القضاء والتنفيذ، فقد حكم على أحد أبناء كبار المنامة بعقوبة، فشفع فيه الشافعون من التجار والأمراء، فلم يقبل شفاعة أحد وأصر على إقامة الحد الشرعي، وتم تنفيذ الحكم بسبب إصرار الشيخ على ذلك، وكذلك كان شديد الحزم في شأن استقلال القضاء، فقد استعجله حاكم البحرين الأسبق الشيخ عيسى بن علي في حكم قضية فكتب إليه «فإن هذه القضية من دواهي المعضلات في القضاء ولا تعاجلني بالقضاء فيها».
ولكن السمة الأكثر بروزا والأجدر بالدراسة، هي ذكاؤه وفطنته العالية، ودوره الإيجابي تجاه ما يطرح عليه من منازعات، فالدور الإيجابي للقاضي - في مقابل أن يكون القاضي آلة قانونية باردة - محل بحث فقهاء الشريعة، وخصوصا القصديين منهم وكذلك هو محل اعتناء فقهاء القانون الحديث، ومن الدور الإيجابي للقاضي محاولته التوصل إلى إقرار الخصم دون التوسل بالإكراه أو الإلزام بغير ما التزم به، وذلك يتوقف على فراسة ومرونة عالية، وقد قال الشيخ المهزع في بعض أحكامه، عن أحد البحارة في قضية نزاع له مع أحد النواخذة: «فاستبنت من النوخذا ما عنده من حجة فوجدته مندهشا على غير محجة وخوفته الله وحذرته فخاف، واستحذر وأعلمته بدلائل القرائن فاستلزم بتسليم المال».
ويقول في قضية أخرى، حين تفرس في أحد الخصوم علامات الغفلة والقصور: «فاستبنت من مهنا بن فضل فأبدى مقالا فهمت أن مهنا صحيح في ديانته مغفل في فطنته»، ثم أحال القضية إلى التحقق من أهل الخبرة والثقاة خارج المحكمة، معللا ذلك: بأن مهنا أبدى ما يوجب النظر والاستبانة، فنلاحظ أنه لم يكتف بقصور إفادة الخصم في الحكم لغير صالحه بل استدعى ذلك أن يستبين ممن له عقل ودين وذلك يعني إنصاف الخصم الذي يبان منه القصور في إدلائه بحجته وإفصاحه عن دعواه، فذلك من موارد التدخل الإيجابي للقاضي تجاه الخصومة الواقعة، ولكنه يحوج إلى دقة متناهية من قبل القاضي، وذلك لأنه واقع بين محذور السلبية تجاه قصور الخصم، وبذلك لا يتوصل إلى العدل والحق الذي هو أساس القضاء، وبين أن يؤدي تدخله إلى تلقين الخصم الحجة أو إكمالها تبرعا عنه وذلك أيضا خلاف العدل، ولذلك كانت هذه المساحة مزال أقدام القضاة عادة، والتخفيف من تلك المحاذير يتوقف على تعلم وممارسة دائمين مع استعداد ذهني ونفسي للتعلم، وكنت قد اقترحت سابقا على المسئولين في وزارة العدل والشئون الإسلامية عمل توثيق ودراسة للأحكام القضائية التي أصدرها كبار القضاة في تاريخ البحرين ومنهم الشيخ المهزع والقاضي المميز الشيخ عبدالحسين الحلي وأمثالهما، وجدير بالملاحظة أن السوابق القضائية في بعض الدول المتقدمة تكتسب أهمية تفوق أهمية القانون المدوّن، وذلك لأنها تعكس خبرة القاضي المتمرس في تعامله مع خصوصيات القضايا.
وكان اعتزال الشيخ المهزع للقضاء، بعد استحداث القضاء المدني الوضعي، ومشاركته للقضاء الشرعي وذلك سنة 1923، فكانت القضايا التي ينظرها القضاء الشرعي لا تقتصر على الأحوال الشخصية، بل تمتد إلى المنازعات المالية والقضايا الجنائية، ولكن منذ 1923 تدخل الاحتلال البريطاني في إنشاء المحكمة المدنية، واقتصرت المحاكم الشرعية على النظر في الأحوال الشخصية، وإن من دواعي الأسف الآن وجود مساعٍ لدى بعض الجهات تجاه تقليص صلاحيات القضاء الشرعي، ليصبح خاصّا بالأحكام الأسرية (الزواج والطلاق وما يتصل بهما)، بدعوى أن سائر الأحوال الشخصية، كالأوقاف، والوصايا، والهبات، والمواريث من اختصاص القضاء المدني، مع إن ذلك مناقض للقوانين المنظمة لأحكام السلطة القضائية، ومن ذلك المادة 13 من مرسوم بقانون رقم 42 لسنة 2002 التي نصت على إن المحكمة الكبرى الشرعية تنظر في دعاوى الأحوال الشخصية، والمقصود بها بحسب الاصطلاح القانوني أنها «مجموعة ما يتميز به الإنسان عن غيره من الصفات الطبيعية أو العائلية، التي رتب القانون عليها أثر قانونيا في حياته الاجتماعية، مثل كونه ذكرا أو أنثى، وكونه زوجا أو أرمل، أو مطلقا أو أبا أو ابنا شرعيا، أو كونه تام الأهلية، أو ناقصا لصغر سن، أو عتَه، أو جنون، أو كونه مطلق الأهلية، أو مقيدها، لسبب من أسبابها القانونية» فهي عنوان أوسع من الأحوال الأسرية في القاموس القضائي.
ومن الأمور الملفتة في تاريخ الشيخ المهزع هو اعتناؤه بالهم العام، مع ما كان يتمتع به من مكانة رفيعة عند أهل النفوذ والسلطة والحكام الذين عاصرهم، والأمثلة على ذلك كثيرة، ومنها القضية التي ذكرها المرحوم مبارك الخاطر في كتابه «القاضي الرئيس قاسم بن مهزع» والتي عرفت بانتفاضة الغواصين ضد النواخذة، وكان ذلك في بداية العشرينات من القرن الماضي، وهي وإن قمعت في بداية أمرها لكنها أجبرت الإنجليز على الاستجابة لبعض المطالب لصالح الغواصين، وقد حظيت بتأييد علماء الدين من السنة والشيعة وفي طليعتهم الشيخ المهزع، ومن تلك المطالب كسر الاحتكار الذي كان يمارسه النواخذة، وبالتالي إعطاء الغواصين الحرية في أن يلتحق من شاء منهم مع صاحب سفينة آخر أو بعمل آخر، على شرط أن يسدد دينه في وقت لاحق.
وما يؤكد اعتناؤه بالشأن العام ملاحظة رسائله إلى الحكام الذين عاصرهم، ومن ذلك قوله في رسالة إلى الشيخ حمد بن عيسى: «ولو أنك تسمع عجيج رعيتك، وضجيجهم، وأنينهم، لما قرت لك عين على مهاد ووساد، ومقت الله أكبر من مقتكم لأنفسكم، فإنه جل جلاله حرم الفواحش ما بطن منها وما ظهر، وان قلبي من ذلك ليبكي ولساني عندك أيها الملك يشكي».
وكذلك من الجوانب اللافتة في حياة الشيخ المهزع موقفه من الاتجاه الديني الإصلاحي الذي عاصره، والذي كان له انتشار بين شباب البحرين الذين درسوا في الأزهر، وجامعة عليكرة في الهند، إذ تأثروا بأفكار السيد جمال الدين والشيخ محمد عبده وعبدالرحمن الكواكبي ومحمد رشيد رضا صاحب المنار وأمثالهم، ويمكن أن نعتبر في سياق هذا التوجه كلمته الشهيرة أمام المعتمد البريطاني: «إن المنتمي للفكر له حرية الفكر في ما يبدي في الشريعة وقانون الدول، وكان ذلك الخط الفكري يهدف إلى الأخذ بأسباب القوة الفكرية لمقارعة الاستعمار، على قاعدة أنه لا طريق للخلاص من هيمنة الأجنبي إلا بالإيمان الواعي والمدرك جيدا للجدل الدائر من حوله، وليس الإيمان الغافل والمندهش بما حوله».
وقد ناقش البعض في انسجام الشيخ مع الفكر الإصلاحي، بحجة أنه يغلب عليه الطابع السلفي المحافظ، إلا أن الأستاذ مبارك الخاطر يقول في مقدمة كتابه المشار إليه: وكان الشيخ يقرأ في هذه الصحف، ويتابع بحوثها، وخاصة فيما تنشره عن التبشير والمبشرين، وكان يعتبر آراء مثل مجلة «المنار» المصرية الأقوال الفاصلة بالحق، وكانت رسائله إلى أخيه أحمد الطالب بالأزهر آنذاك تحمل طابع الإصلاح الإسلامي، وكان علماء الأزهر في تلك الآونة يطرحون تلك الرسائل في سياق تعابيرها المتسمة بالسلاسة.
ولكن من المحتمل أن يكون الدافع لتعامل الشيخ مع الاتجاه الإصلاحي - مع كونه في نفسه محافظا - هو الاستعانة به ضد التبشير، الذي كان على أشده في المنطقة يومذاك، وكان بطله المستشرق الانجليزي صموئيل زويمر، صاحب الكتاب الشهير «العالم الإسلامي اليوم» فقد واجه الشيخ تيار التبشير، مستعينا بأخيه الشيخ أحمد الذي جلب معه من مصر مجلة «العروة الوثقى» للأفغاني، والتي اعتبرت يومذاك الفكر الأقدر على الدفاع عن حيوية الإسلام، لأنها كانت تنفتح على الجدل الجاري في الغرب حول الإسلام.
وقد مر التبشير في البحرين بمراحل ثلاث بدأت بالدعوة المباشرة إلى التنصير، وبعد أن لاقى ذلك فشلا ذريعا لجأ إلى أساليب التشكيك في مبادئ الإسلام، عبر تجمعات يقيمها في أماكن مختلفة، وقد عبر زويمر عن هذا التحول في مؤتمر القدس التبشيري عام 1935م حيث وقف يقول: «مهمة التبشير التي تربيكم لها الدول المسيحية في البلاد الإسلامية، ليست في إدخال المسلمين في المسيحية, فإن في هذا هداية لهم وتكريما، وإنما مهمتكم هي أن تخرجوا المسلم من الإسلام، ليصبح مخلوقا لا صلة له بالله، وبالتالي لا صلة له بالأخلاق التي تعتمد عليه الأمم في حياتها» ولكن زويمر وصحبه لقوا جفاء شديدا من الشعب البحريني.
فقد تصدت لهم مجموعة من الشباب المسلمين من الطائفتين منهم: خليل المؤيد، ومحمد حسن العريض، ويوسف كانو، ومحمد علي التاجر بحسب الأستاذ مبارك الخاطر، فلجأ زويمر وزمرته بعد ذلك إلى الدعوة غير المباشرة، عن طريق التطبيب والتعليم، مدعيا أن ذلك يحقق الغاية من غير إثارة، ولكن الشيخ المهزع لم يأل جهدا في مقارعة التبشير، حتى إنه تمكن من استصدار أمر من حاكم البلاد الأسبق الشيخ عيسى بن علي بطرد زويمر من البلاد، وقد سبق له أن أصدر فتاوى تمنع الناس من التعاون معه، أو تقديم تسهيلات لرفاقه، وعمل على توعية الناس بأغراضه وأهدافه، عن طريق العلماء والوجهاء والتجار.
فهذه نبذة سريعة عن تاريخ شخصية من أكابر الشخصيات التي عرفها تاريخ البحرين الحديث.
إقرأ أيضا لـ "الشيخ حميد المبارك "العدد 1687 - الخميس 19 أبريل 2007م الموافق 01 ربيع الثاني 1428هـ