العدد 1687 - الخميس 19 أبريل 2007م الموافق 01 ربيع الثاني 1428هـ

توكفيل مكتشف الديمقراطية الأميركية

الحرية لا تعني المساواة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

حين زار المفكر الفرنسي اليكسيس توكفيل الولايات المتحدة في العام 1831 - 1832 أصيب بصدمة ثقافية. فهذا الشاب القادم من فرنسا اكتشف عناصر حياة مختلفة عن تلك السائدة في أوروبا. ودفعت الدهشة المثقف الشاب إلى البحث عن «سر» الحياة السياسية في هذه الدولة الجديدة.

لم يلجأ توكفيل إلى قراءة الكتب لمعرفة أميركا وإنما اشتغل على دراسة الواقع كما يراه. وأخذ يبحث ميدانيا عن العوامل الخاصة التي ساهمت في تأسيس علاقات اجتماعية مختلفة عن فرنسا. فالديمقراطية في أميركا مختلفة عن تلك الفرنسية. ورؤية الناس للحياة تختلف. ونظرتهم للدولة تختلف.

هذا الجديد أثار انتباه توكفيل وشجعه على قراءة مباشرة للواقع الأميركي وما يمثله من رؤية للآخر تتميز بهامش من الاستقلالية. فالديمقراطية التي اكتشفها توكفيل في أميركا طبعة جديدة وتختلف نسختها عن تلك الديمقراطية التي عاصر تفاعلاتها بعد الثورة الفرنسية. فالأولى ملتصقة بالمجتمع وممارسة في علاقات الناس اليومية، فهي أقرب إلى الثقافة الجمعية التي يتشكل منها عقل سياسي حر وناقد بعقلانية للسلوك العام. والثانية منفصلة عن المجتمع وتقتصر على المؤسسات التي تنظم علاقات الناس وتحدد نهجهم اليومي، فهي أقرب إلى سياسة تعتمدها الدولة في صلاتها الفوقية والعامة مع الناس بينما المجتمع يعيش في مكان آخر ويقرأ الديمقراطية بصفتها فكرة مؤقتة محكوم عليها بالفشل.

شكلت هذه الملاحظات مادة أولية للمفكر الفرنسي توكفيل ومنها انطلق ميدانيا ليكتب بحثه عن «الديمقراطية في أميركا». فالكتاب جمع بين التوثيق والتحليل والانطباعات الشخصية والمقارنة بين نموذجين. لذلك اعتبر عمله رائدا في مجاله لأنه جمع التاريخ والاجتماع والسياسة إلى جانب الفلسفة التي اعتمدت نهج المقارنة لاستنتاج سلسلة توصيفات لتجربة جديدة تمارس عمليا في مكان بعيد عن أوروبا.

توكفيل قبل زيارته للولايات المتحدة وتفاعله مع تلك التجربة الجديدة كان غير متحمس للديمقراطية كفكرة. فهو تأثر بوالده المؤيد للنظام القديم والملكية ولم يكن يثق بإمكان نجاح فكرة الديمقراطية وشعارات الثورة: حرية، إخاء، مساواة.

بعد الزيارة تغيرت رؤية توكفيل واكتشف حسيا أن الديمقراطية تعني الكثير وليست مجرد أسلوب تعامل سياسي تعتمده الدولة لتمييز نظامها الجديد عن القديم. ولاحظ توكفيل أن الديمقراطية يمكن أن تعاش بصفتها ذاك الأسلوب الثقافي الذي يحدد العلاقات الشخصية بين البشر. لذلك رأى في الديمقراطية ذاك الوعاء الذي يزيد من جرعة النقد ويطور ملكة العقل ويساعد الفرد على استخدام قدراته العقلية في الاختيار والتفضيل. كذلك وجد أن الديمقراطية تطلق سراح العقل من الأسر وتكسر تلك القيود الاجتماعية التي تكبل الإنسان وتحاصره في حياته اليومية وسلوكه الشخصي.

بناء على هذه الصدمة الثقافية السياسية انقلبت رؤية توكفيل فهو بات من المؤيدين للديمقراطية في نسختها الأميركية لأنها تتجاوز حدود صناديق الاقتراع ودورات الانتخاب الزمنية والمتعاقبة ضمن فترة محددة. فالديمقراطية التي تحمس لها توكفيل بعد عودته من أميركا كانت تميل إلى الممارسة اليومية والعلاقات الحياتية. فهي أوسع من أن تكون صيغة نظام أو فكرة تقول بها الدولة بينما الناس يعيشون علاقات ثقافية تقليدية ومستبدة وبعيدة في جوهرها الإنساني والحقوقي عن مبدأ الديمقراطية ومعانيه الشاملة.

عاد توكفيل إلى فرنسا وأصدر كتابه عن الديمقراطية في أميركا في العام 1835 فأثار ضجة في أيامه وأشعل مجموعة نقاشات طاولت سلسلة حقول سياسية وفلسفية واجتماعية. آنذاك كان في الثلاثين من عمره فعرف شهرة واسعة في مقتبل العمر فانتخب عضوا في أكاديمية العلوم السياسية في العام 1838 ثم عضوا في الأكاديمية الفرنسية في العام 1841.

أهمية توكفيل لا تقتصر على تأريخ تطور الفكرة الديمقراطية واختلاف نسختها الأوروبية عن الأميركية بل تأكيده على انتصارها التاريخي وبأن العالم دخل مرحلتها ولن يعود عنها. هذه الفكرة كانت حاسمة في تفكير توكفيل بعد تردد وشكلت نقطة عبور له للانتقال إلى نقد «النظام القديم» وهو كتابه الثاني بعد عشرين سنة من كتابه الأول.

نظرية جديدة

أحدثت أفكار توكفيل ثورة في نظريات الفلسفة السياسية. آنذاك كانت الديمقراطية مجرد فكرة يقول بها الفلاسفة ولم تكن منتشرة في أوساط الناس. وكان البعض ينظر إليها من زاوية ايديولوجية لا تاريخية وأنها ستموت مع الأيام ولن تنجح في تأسيس علاقات بديلة عن تلك المتوارثة منذ قرون. فكرة توكفيل أكدت أن الديمقراطية ليست مؤقتة وأن النظام القديم انتهت مرحلته وأن المستقبل هو لهذه الفكرة التي ستنتشر عالميا وستتحول من عالم المثل إلى عالم واقعي تعيشه الشعوب.

انحياز توكفيل إلى الديمقراطية وفق النمط الأميركي لم يمنعه من نقد بعض جوانبها السلبية على رغم قناعته بانتصارها التاريخي. أهم سلبية وضعها كانت تخوف توكفيل من احتمال تحول الديمقراطية إلى المبالغة في تعزيز النزعة الفردية للإنسان ودخوله في المنافسة من دون وعي لمخاطر عدم احترام حقوق الآخر ومصالحه. فالديمقراطية برأيه قد تؤدي إلى زيادة طمع الإنسان وتنافسه على احتكار السوق والمال والثروة والسلطة من دون وجود وازع اجتماعي يحد من تطرف سلوكه الفردي المحكوم بحرية النقد واستخدام العقل كسياج يمنع الارتباط بالآخر.

السلبية الأخرى التي قرأ توكفيل عناصرها الخفية في الديمقراطية الجديدة (الأميركية) هي عدم احترامها للمساواة بين البشر. فالفكرة جميلة وقوية وستكتسح تاريخياَ العالم وستعزز ملكة العقل وحرية النقد ولكنها في النهاية لن تنجح في تحقيق المساواة بسبب نزعة التنافس التي ستطلقها بين البشر.

توكفيل ميّز بين الحرية والمساواة. فالحرية لا تعني المساواة، والمساواة لا تعني الحرية. والديمقراطية تفتح الباب أمام الحرية ولكنها لا تفتحه بالسوية نفسها والنسبة نفسها أمام الإخاء والمساواة.

الانتقادات التي أطلقها توكفيل كانت في أيامه مجرد فرضيات تتحسب من سلبيات مستقبل الديمقراطية في لحظة بدء انتصارها العالمي وتحولها إلى واقع تاريخي لا يمكن النكوص عنه. ولكن تحفظات هذا المفكر الفرنسي تعود إلى عاملين: الأول حصول اضطرابات سياسية في فرنسا وأوروبا ناتجة عن الإفراط في دعوات الديمقراطية (حرية، إخاء، مساواة) الأمر الذي زعزع بعض القناعات وجعله يطلق تحذيرات بشأن التطرف الفردي وخروجه على الإجماع والمصالح المشتركة للبشر.

الثاني أصوله الاجتماعية. فهو ينتمي إلى أسرة أرستقراطية وقفت إلى جانب الملك لويس السادس عشر وزوجته ماري انطوانيت. فوالده تحدى الثورة الفرنسية وهاجمها وقاتلها دفاعا عن النظام الملكي (الأرستقراطي/ الكنسي) وكاد الثوار يقطعون رأسه بالمقصلة ولكنه نجا مصادفة.

توكفيل ولد بعد الثورة الفرنسية في العام 1805 وتربى في أسرة تعشق «النظام القديم» وتتوقع عودته في وقت سريع. فالسنوات الأولى من حياته كانت رافضة للديمقراطية لأنها تؤسس الفوضى السياسية وتحطم التراتب الاجتماعي وتضع معايير مبهمة للإنسان وتساويه بالآخر من دون تمييز بين الخير والشر والحق والباطل والغني والفقير والمتعلم والأمي والعارف والجاهل.

آنذاك كانت الديمقراطية ضعيفة في أوروبا وحديثة الولادة وغير مفهومة لدى الناس وتعاني من صعوبات سياسية في فرض شروطها وكسر ثوابت النظام القديم الضارب جذوره في عمق التاريخ والاجتماع. فالديمقراطية في مطلع القرن التاسع عشر كانت محاصرة وغير مقبولة عموما. حتى إن كبار الفلاسفة في تلك الفترة من كانط وهيغل وماركس تعاطوا معها بكبرياء ومن فوق ولم تشكل لهم ذاك الهاجس الذي يؤرق العقل والمصلحة كما هو حال توكفيل.

ملاحظات هذا المفكر الشاب الذي عاش إلى العام 1860 (توفي في 55 من عمره) لم تكن مفتعلة. فهو قرأ بوضوح عناصر نجاح الديمقراطية ورأى فيها ذاك الحل الحتمي للبشرية وتوقع باكرا امتدادها العالمي وانتصارها الكاسح على «النظام القديم». إلا أنه رأى أيضا أنها تعني الحرية ولا تعني المساواة. فالتمييز الاجتماعي، الاقتصادي، اللوني، العنصري بين البشر وعدم التساوي في المعاش والحياة كلها عناصر تحتاج إلى حلول أخرى لا تستطيع فكرة «الديمقراطية» أن تحلها لوحدها. فالحرية مسألة سياسية أما المساواة فهي اجتماعية ولذلك المساواة تحقيقها أصعب بسبب الفردية والطمع. هذا التوقع شكّل ما يشبه الحدس الوجداني. فالديمقراطية في أميركا ستتعرض فعلا إلى حرب أهلية كبرى بعد سنة من رحيل توكفيل. والحرب لن تكون بسبب الديمقراطية التي وصفها في كتابه وإنما بسبب نظام الرق وعدم المساواة بين البشر.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1687 - الخميس 19 أبريل 2007م الموافق 01 ربيع الثاني 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً