برحيل عالم الاقتصاد ميلتون فريدمان في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، فقدنا بطلا عظيما من أبطال السوق الحرة. وفي النعوات والتعليقات التي سجلت الحوادث التي تتعلق بحياة الفقيد من ناحية أعماله وتأثيره الهائل فقد تم التنويه وبشكل لم يتغير بمناصرته ودفاعه عن أسعار الصرف المرنة والتي تركت انطباعا على أنه يستحسنها ويحبذها على الدوام. إلا أن ذلك ليس على هذا الحال. بالنسبة إلى فريدمان هناك ثلاثة أنواع مميزة من أنظمة أسعار صرف العملات: سعر الصرف المرن، وسعر الصرف الثابت وسعر الصرف المرتبط. ويوجد لكل نظام من هذه الأنظمة الثلاثة خصائص متباينة ونتائج مختلفة. وعلى رغم كون سعر الصرف المرن وسعر الصرف الثابت يبدوان وكأنهما غير متماثلين، فإنهما عضوان في أسرة السوق الحرة نفسها. فكلاهما يعملان من دون وجود قيود على النقد، كما أنهما آليتان من آليات السوق الحرة الخاصة بتصحيحات ميزان المدفوعات بوجود سعر الصرف المرن، بإمكان البنك المركزي أن يضع السياسة النقدية، إلا أنه لن يملك سياسة سعر الصرف، إذ سيكون سعر الصرف وفقا لأسلوب التوجيه التلقائي. وتبعا لذلك، سيتم تحديد القاعدة النقدية على المستوى المحلي من قبل البنك المركزي. أما بوجود سعر الصرف الثابت، فسيكون هناك احتمالان: إما أن يقوم مجلس العملة بتحديد سعر الصرف - إلا أنه سوف لن يكون لدى البنك سياسة نقدية، إذ سيكون عرض النقد وفقا لأسلوب التوجيه التلقائي - أو أن يتم اتباع نظام «دولرة» الاقتصاد واستخدام عملة أجنبية كعملة خاصة به. وبناء عليه، وبموجب نظام سعر الصرف الثابت سيتم تحديد القاعدة النقدية للدولة من قبل ميزان المدفوعات والذي سيتحرك بمطابقة تتم بحسب الطلب (من واحد لواحد) مع تغييرات تطرأ على الاحتياطيات من العملات الأجنبية. وبوجود هذين النظامين الخاصين بالسوق الحرة وآليتي سعر الصرف فسوف لن يكون هناك تعارض بين السياسة النقدية وسياسة سعر الصرف، وسوف لن تتمكن أزمات ميزان المدفوعات من أن تقوم برفع رؤوسها البشعة. وفعلا، ستقوم قوى السوق بالتصرف لإعادة توازن التدفقات المالية بشكل تلقائي ولتفادي وقوع أزمات ميزان المدفوعات بموجب نظامي سعر الصرف المرن وسعر الصرف الثابت.
ويبدو أن سعر الصرف الثابت وسعر الصرف المرتبط وكأنهما شيء واحد. ومع ذلك، فهما من الناحية الأساسية مختلفان كالآتي: في معظم الأحيان تقوم أنظمة سعر الصرف المرتبط باستخدام تقييدات على النقد، وهي لا تعتبر من آليات السوق الحرة بخصوص تصحيحات ميزان المدفوعات العالمية. كما تتطلب أسعار الصرف المرتبطة وجود بنك مركزي ليقوم بإدارة كل من سعر الصرف والسياسة النقدية. وكذلك، بوجود سعر صرف مرتبط، فستتضمن القاعدة النقدية عناصر محلية وأجنبية كليهما. وبشكل لا يشبه سعري الصرف المرن والثابت، فإن أسعار الصرف المرتبطة ستؤدي بشكل لا يتغير إلى حدوث تعارضات بين السياسة النقدية وسياسة أسعار الصرف. فعلى سبيل المثال، عندما تصبح تدفقات رأس المال إلى الخارج «زائدة عن الحد الأدنى» فسيقوم البنك المركزي بمحاولة تعويض ذلك النقص في عنصر القاعدة النقدية الأجنبي من خلال سندات الشراء، بحيث تعمل على زيادة عنصر القاعدة النقدية المحلي. ويتم نشوب أزمات ميزان المدفوعات عندما يبدأ البنك المركزي بالمقاصة بشكل متزايد بغرض خفض عنصر القاعدة النقدية الأجنبي مع أموال أساسية مستحدثة محليا. وعندما يحدث مثل ذلك، فسيكون الأمر مجرد مسألة وقت قبل أن يقوم مضاربو العملات بفرز التناقضات الموجودة بين سياسة سعر الصرف والسياسة النقدية (كما قاموا بعمله بالأزمة المالية الآسيوية التي حدثت بين عامي 1997-1998) وبفرض خفض في قيمة العملة أو بفرض قيود على سعر الصرف.
من حيث المبدأ، قام فريدمان بتفضيل واستحسان كل من أسعار الصرف المرنة والثابتة. وبموجب هذين النظامين من أنظمة السوق الحرة، يتم تدفق رأس المال بشكل حر ومن دون أية قيود. وقد قام فريدمان، وعلى الدوام، برفض نظام سعر الصرف المرتبط.
في العام 1992، قمت بالمشاركة في تأليف كتاب باسم «الإصلاح النقدي الخاص بجمهورية استونية حرة» والذي يحمل تظهيرا تعزيزيا من قبل فريدمان كالآتي: «يعتبر مجلس العملة، كالذي يقترحه (هانكي)، نظاما ممتازا ومناسبا لدولة في مركز استونيا». وخلال ستة شهور قامت استونيا بإغراق الروبل الروسي (ببيعه برخص زهيد جدا) وكان مجلس عملتها يقوم بصرف «الكرون» الاستوني بسعر صرف ثابت مقداره ثمانية كرونات مقابل المارك الألماني الواحد (والذي اصبح في وقت لاحق 15.65 كرونا مقابل اليورو الواحد). ومنذ ذلك الوقت، ازداد الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد بمقدار عشرة أضعاف، وهو أداء يعتبر مثيرا للإعجاب.
لقد قام فريدمان بالانحياز إلى سعر الصرف الثابت الذي تم في هونغ كونغ، بقوله: «تشير تجربة هونغ كونغ بكل وضوح إلى أن دولة معينة كهونغ كونغ سوف لن تكون بحاجة إلى بنك مركزي. فهي فعلا دولة محظوظة جدا لأنها ليس لديها مثل ذلك. فنظام مجلس العملة الذي تم إدخاله في العام 1983 قد حقق نجاحا جيدا جدا بالنسبة إلى هونغ كونغ، وإنني اعتقد أن من المحبذ الاستمرار به». وبذلك، وبشكل مخالف للمعتقد الشائع، قام فريدمان باستحسان والانحياز إلى كل من نظامي سعر الصرف المرن والثابت.
* أستاذ علم الاقتصاد التطبيقي في جامعة جونز هوبكنز، والمقال ينشر بالتعاون مع مصباح الحرية
إقرأ أيضا لـ "مصباح الحرية"العدد 1687 - الخميس 19 أبريل 2007م الموافق 01 ربيع الثاني 1428هـ