أكثر من مسئول أميركي رفيع المستوى أكد في الأسبوع الماضي عدم وجود خطة لضربة عسكرية جوية/ صاروخية لإيران. وهناك بعض المسئولين بالغ في التطمين، وبعضهم وصف احتمال الضربة بالجنون وأنها ليست في البال لا أمس ولا اليوم ولا غدا.
هذا النفي القاطع والمتكرر الذي جاء في مناسبات مختلفة يطرح أسئلة عن معنى هذه الحشود العسكرية في المنطقة وزيادة القوات البرية في العراق والأساطيل البحرية في الخليج وبحر العرب. فإذا كان الهدف من الحشود ليس عسكريا فما هي الرسالة السياسية التي تريد واشنطن توجيهها إلى دول المنطقة وشعوبها؟
هناك أجوبة كثيرة قدمت في هذا الصدد، منها أن الحشود هي للتخويف ومنع أي قوة محلية أو إقليمية من تعريض أمن المنطقة للخطر. ومنها أيضا أن إرسال الحاملات والناقلات والمدمرات والغواصات كان بقصد الحماية وتطمين الحلفاء والأصدقاء أن أميركا موجودة ولاتزال قوية وقادرة على الدفاع عن مصالحها الاقتصادية وأمنها الاستراتيجي.
الكلام الأميركي المريح ترافق أيضا مع تطمينات بأن واشنطن لن تلجأ إلى السلاح إلا في حال الدفاع عن النفس، مؤكدة أن كل ما يقال أو يشاع عن معركة سريعة ومحدودة مجرد تسريبات صحافية ومعلومات استخباراتية غير دقيقة.
أميركا إذا وكما تقول مصادرها ومراجعها العليا قررت التقاعد عسكريا واستئناف نشاطها السياسي بأسلوب تقليدي يلتزم الشرعية الدولية والقوانين والمعاهدات التي وقعت خلال العقود الستة الماضية. والعودة الأميركية إلى النظام الدولي يعني أن واشنطن باتت في موقع يملي عليها احترام قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن وعدم اختراق الحواجز أو تعريض مصالح الدول الكبرى إلى الخطر أو الزعزعة.
هذا الاستنتاج يمكن استخلاصه من التصريحات أو التحركات الدبلوماسية الأميركية على المستويين الدولي والشرق أوسطي. وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس الذي يقوم بجولة على دول المنطقة جدد التأكيد على أن الولايات المتحدة مقتنعة بأهمية الضغوط الدبلوماسية والاقتصادية على إيران. وبرأيه أن هذه الضغوط كافية لإقناع طهران بضرورة التخلي عن مشروع التخصيب وطموحاتها النووية.
إلا أن وزير الدفاع هذا لم يوضح سبب جولته هذه. فإذا كانت واشنطن أقلعت عن سياسة التقويض والهدم وباتت مقتنعة بأن أسلوب الإملاءات وفرض الشروط بالقوة العسكرية فشل أو وصل إلى طريق مسدود لماذا إذا يقوم بهذه الجولة التفقدية والتطمينية؟ غيتس لمّح إلى أنه أراد استكشاف حاجات المنطقة وجس نبض دولها والاستطلاع من القادة رأيهم بالوسائل المفضلة لوقف النفوذ الإيراني وكيف يمكن التعامل معه واحتواء تأثيراته.
الشرح المذكور يوجز الخطة الأميركية. فهي تعتمد من جهة الخداع والتظاهر بالضعف ومن جهة ترسل الحشود البرية والبحرية وأخيرا تدعي أنها للدفاع والتطمين ولمنع إيران من تحقيق المزيد من المكاسب أو النفوذ الإقليمي. فالخطة كما وصفها غيتس سياسية سلمية تستخدم دبلوماسية البوارج وسيلة للضغط أو التخويف أو التنبيه.
هذا على صعيد خطة وزارة الدفاع. أما على صعيد وزارة الخارجية الأميركية فهناك كما يبدو خطة سياسية موازية تعتمد معايير جديدة للبدء في حل القضية الفلسطينية. مصادر وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس ذكرت أن الوزيرة قادمة إلى المنطقة في منتصف الشهر المقبل لاستئناف مفاوضاتها التي انقطعت أو تجمدت خلال جولتها الأخيرة التي سبقت قمة الرياض العربية بأيام قليلة. وأوضحت المصادر أن رايس وضعت برنامجا يقضي بزيارة المنطقة مرة كل شهر ولمدة سنتين وهي الفترة المتبقية من عهد الرئيس جورج بوش. والقصد من الزيارات (24 زيارة) هو العمل على ترجمة تصورات بوش بشأن خريطة الطريق والتوصل إلى حل يقوم على دولتين في فلسطين.
إذا خلاصة الرسالة السياسية الأميركية من وراء الحشود العسكرية والجولات المكوكية هي: لا حرب مع إيران ولابد من استئناف النشاط الدبلوماسي لإيجاد حل سلمي لمشكلة «الشرق الأوسط» وتحديدا فلسطين التي تعتبر مفتاح كل القضايا المزمنة والمستحدثة في المنطقة.
هل يمكن أخذ الوعود الأميركية بجدية والتعامل معها وكأنها فعلا تمثل الملاذ الأخير لإدارة قطعت العهود وهددت وتسلطت ثم توصلت في النهاية إلى نتيجة سياسية أقرتها منذ عقود قرارات الأمم المتحدة ومبادرة السلام العربية؟
هناك الكثير من الأسئلة يمكن طرحها لاستكشاف الأسباب الموجبة التي دفعت الإدارة الأميركية إلى تغيير سلوكها بعد سنوات من التهديد بتغيير سلوك الأنظمة.
أسئلة كثيرة
هل وصلت إدارة بوش إلى مرحلة العجز ودخلت فترة الشيخوخة وباتت تعيش في غرفة النقاهة لتمضية الوقت وقطع ما تبقى من خطوات زمنية من دون انفعال أو اضطراب؟ هل قرر الرئيس بوش التقاعد المبكر وترك تقرير الأمور نيابة عنه لوزير الدفاع ووزيرة الخارجية؟ هل أنهكت واشنطن ولم تعد قادرة على رد الهجمات السياسية والدفاع عن استراتيجيتها الهوجاء، وباتت في مكان محرج لا تستطيع من موقعه إقناع الناخب الأميركي ودافع الضرائب بصوابية قراراتها؟
أسئلة كثيرة يمكن طرحها لفهم عناصر التغيير أو تلك الأسباب الدافعة التي قلبت السياسة وأدخلت عليها عقلانية غير معهودة وواقعية لم تكن موجودة. فهل هذا الانقلاب السياسي في التكتيك أم في الاستراتيجية؟ وإذا كان الانقلاب حصل لماذا التردد في إعلان مبادرة واضحة بشأن فلسطين و «الشرق الأوسط»؟
حتى الآن تبدو الأمور مبهمة. فالتغيير الذي يقال إنه حصل لم يتجاوز حدود التكتيك السياسي ولم يعبر الحدود التقليدية للاستراتيجية الأميركية في المنطقة. واشنطن ترددت في دعم «تفاهم مكة» وقررت الاستمرار في سياسة مقاطعة الحكومة الفلسطينية ومحاصرة الشعب الفلسطيني وتعطيل حياته اليومية العادية. والدعم المطلق الذي كانت تقدمه واشنطن لتل أبيب لايزال على حاله من دون تعديل أو على الأقل الوعد بإعادة قراءة أوراق الملف بما فيها تلك النقاط المتصلة بمواصلة بناء جدار الفصل العنصري وتوسيع المستوطنات والاستيلاء على الأراضي وطرد الناس من مناطقهم ورفض إطلاق عشرة آلاف أسير من المعتقلات.
حتى موضوع تجديد قمة الرياض لمبادرة السلام العربية التي أطلقت في بيروت في العام 2002 لم توضح واشنطن موقفها الصريح منها. فالإدارة مترددة ومتعثرة ومتلعثمة في أجوبتها بشأن خطة الانفتاح التي تقوم على خطوتين: السلام أولا والتطبيع ثانيا.
إذا كانت إدارة بوش جادة في تحقيق السلم لماذا هذا اللف والدوران بشأن المبادرة العربية التي رفضتها تل أبيب باعتبار أنها تقدم السلام على التطبيع بينما حكومة إيهود أولمرت تقدم التطبيع على السلام.
أين التغيير إذا في السياسة الأميركية التي يقال إنها ابتدأت في تدشين معايير جديدة؟ المؤشرات لا تدل على وجود خطة سياسية تعتمد النهج العادل والمتوازن الذي يحترم المصالح ويضعها في سياق سلمي وتحت سقف القرارات الدولية.
لا يقتصر الغموض الأميركي على الجانب الفلسطيني بل يمتد ويتسع إلى دارفور في السودان والصومال ثم يرتد لينتقل إلى لبنان والعراق. ففي كل هذه النقاط الساخنة تبدو واشنطن غير مقبلة على سياسة تبديل المواقف بشأن هذه الملفات التي تقلق أمن المنطقة. الموقف الأميركي من السودان وأسلوب الخرطوم في معالجة أزمة إقليم دارفور لايزال على حاله من دون تغيير جوهري. كذلك الموقف من الفوضى السياسية التي افتعلتها في الصومال بالتحالف مع إثيوبيا. والسلوك تجاه لبنان لايزال يتحرك تحت سقف المصالح الإسرائيلية وأمن تل أبيب وموقعها ونفوذها الإقليمي. كذلك لا تبدو الخيارات الأميركية في العراق متجهة نحو التعديل على رغم بدء ظهور عوارض الفشل على الخطة الأمنية الجديدة التي طرحتها واشنطن ردا على توصيات تقرير بيكر - هاملتون.
الكلام الذي صدر بشأن توضيح أسباب جولة غيتس للمنطقة غير مقنع. كذلك تبدو تلك «المعايير الأميركية» الجديدة بشأن فلسطين و «الشرق الأوسط» لا تتعدى التكتيكات السياسية التي تستهدف كسب ثقة مفقودة وتقطيع وقت حتى يعاد تثبيت أزمات المنطقة وتجميد ملفاتها تجنبا لحلها بأسلوب عادل ومتوازن.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1686 - الأربعاء 18 أبريل 2007م الموافق 30 ربيع الاول 1428هـ