كله إلا الإرهاب يا سادة...
لقد عاد الإرهاب وانتشر يضرب بأظافره الشرسة والسرطانية، من باكستان شرقا إلى المغرب والجزائر غربا... لم يعد هناك هدف إلا الدم والدمار...
ولقد جاءت الهجمة الإرهابية الأخيرة، في وقت كنا نتحدث فيه عن ضرورات الإصلاح الديمقراطي من ناحية، وعن حتمية انسحاب أميركا من منطقتنا من ناحية أخرى، الإرهاب يعرقل الإصلاح ويعطي المبرر الكافي للحكومات لتقييد الحريات وفرض الضوابط الصارمة على حقوق المواطنين، مثلما يعطي الغطاء المطلوب لأميركا وحلفائها من الاستعماريين الجدد للاستمرار في شن الحروب، وتقويض الأمن والاستقرار في الدول المتهمة بتفريخ الإرهابيين.
هكذا يبدو التناقض بين دواعي الحرية وأسباب الحرب الإرهابية، وبالتالي يتضح التلازم بين الإرهاب والاستبداد، بين التطرف الأعمى وتقييد الحريات بل وانتهاك حقوق الإنسان، وهذه معادلة صعبة بكل المقاييس، إذ كيف نحارب الإرهاب ونحارب الديكتاتورية في الوقت ذاته!.
وحين ندقق النظر في خريطة البلاد العربية والإسلامية، من شواطئ اندونيسيا شرقا إلى شواطئ الأطلس غربا، تكتشف بسرعة، كيف أن أذرع الإرهاب والعنف المسلح قد امتدت تقتل وتدمر، باسم الدفاع عن استقلال الشعوب وسيادتها، في مواجهة الغزوة الاستعمارية الجديدة، هكذا اضطرت الأمور واختلطت المفاهيم، ما بين المقاومة الوطنية الشرعية للاستعمار الأجنبي، وبين العمليات الإرهابية التي لا تفرق بين المواطن المدني المسالم، وبين جندي الاحتلال الأجنبي الذي ينتهك الاستقلال والسيادة...
فإن كنا نجد مبررا للمقاومة المسلحة في فلسطين والعراق وأفغانستان والصومال، باعتبارها حقا مشروعا، فكيف يقبل البعض، حتى من باب الشماتة، العمليات الإرهابية الدموية كالتي وقعت حديثا في المغرب والجزائر، ومن قبلها في تونس ومصر واليمن والأردن وسورية والسعودية وغيرها، تلك العمليات التي لم تحصد سوى أرواح المواطنين!.
ولكي لا يستمر خلط الأمور أمامنا، نقول إن هناك أسبابا داخلية وأخرى خارجية لاندلاع التطرف والإرهاب، أما الأسباب الداخلية فتتلخص في الغلو والانحراف الفكري والقصور في فهم الدين، وكذلك في البأس والإحباط لدى أجيال جديدة، نتيجة الأزمات الاقتصادية الاجتماعية المتفاقمة، والمتداخلة مع الاحتقان السياسي وغياب الحكم الصالح الرشيد «الديمقراطي»، لصالح الحكم المستبد الظالم، الذي يعتمد القهر السياسي بواسطة أجهزة الأمن، بدلا من اعتماد التنمية الحقيقية وإطلاق الحريات العامة واحترام حقوق الإنسان، وفتح أفق المستقبل أمام الأجيال الصاعدة، لتنجو من الظلم الاجتماعي والسياسي...
ثم جاءت أسباب خارجية هاجمة وظالمة، لتبني فوق هذا الأساس الاجتماعي السياسي الفكري المتهاوي ونعني الهجمة الاستعمارية التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية على بلاد وشعوب العرب والمسلمين منذ الهجمات الانتحارية الدموية على نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر/ أيلول 2001، الأمر الذي استفز الجميع...
والحقيقة التي ذكرناها من قبل أكثر من مرة، أن هجمات سبتمبر على دمويتها، لم تكن البداية للغزوة الاستعمارية المسلحة، بل كانت إشارة بدء الحملة المسلحة على شعوب، تعتقد عصابة المحافظين الجدد واللوبي الصهيوني الأميركي، أنها مفرخة الإرهاب، وأن البيئة الدينية «الإسلامية» الفكرية والاجتماعية المتدهورة، هي وحدها السبب الرئيسي للتطرف المسلح، الذي يدفع الإرهابيين للانتقام من الحضارة الغربية المزدهرة اقتصاديا وديمقراطيا...
هكذا أصبح «الخطر الإسلامي» بديلا «للخطر الشيوعي» الذي انهار، فقد كان ضروريا تنصيب عدو تحاربه تلك الحضارة، وتحقق من خلال غزوه وقهره، مكاسب سياسية واقتصادية وتجارية، فوق الزهو العسكري واستعراض عضلاته المسلحة، التي تنتفخ بفكرة أو حتمية الصراع بين الغرب المسيحي اليهودي والعالم الإسلامي، لأسباب لا تخفى على أحد!.
ونتيجة لهذه الأسباب الداخلية والخارجية المتداخلة المترابطة المتعاونة، جاء رد الفعل العربي الإسلامي، بين الشعوب، عنيفا، ووجدت الأفكار المتطرفة الأرض الخصبة لتنمو فيها سريعا، ووجدت المنظمات الإرهابية مخازن هائلة للتمرد والرفض بين الشباب خصوصا، المتمرد على أحواله الاجتماعية الاقتصادية السياسية المتدهورة في ظل نظم حكم جائرة وقاسية، والرافض بالقوة نفسها للتدخل الأجنبي والغزو الاستعماري الجديد، الراغب في فرض قيمه وأفكاره وسياساته بالقوة المسلحة.
وبقدر ما وجدت القوى الاستعمارية الأجنبية، مبررات لغزوها وحربها، باسم نشر الديمقراطية والإصلاح السياسي الاقتصادي وفرضهما فرضا على هذه الشعوب المتخلفة، بقدر ما وجد البعض من هذه الشعوب، في التطرف والإرهاب والقتل والتدمير، سلاحا نافذا، للدفاع عن الإسلام في وجه الهجمة الأجنبية، والدفاع عن حقوق الشعوب في وجه النظم المستبدة...
هكذا تمددت على سبيل المثال شبكة «القاعدة»، منطلقة من أفغانستان، لتصل إلى المغرب والجزائر، باسم تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وهو تنظيم يقوم الآن على قاعدة مسلحة أخرى، كان اسمها «الجماعة السلفية للدعوة والقتال»، وغيرها من المنظمات المتشددة.
ولعلنا نلاحظ أن تنظيم القاعدة العنقودي هذا، لم يكتفِ بضربته الشهيرة في أميركا، ولكنه ضرب في قلب أوروبا، في لندن ثم في مدريد، تعبيرا عن يده الطولي، لكنه عاد وانكفأ على عملياته الدموية في بلاد العرب والمسلمين كما ذكرنا، بحجة أنه يريد تحرير ديار الإسلام من الاستعمار الغربي وعملائه الحاكمين...
والمعنى الذي نريد توضيحه، أن ثمة علاقة عضوية، بين تنامي العمليات الإرهابية من ناحية، وبين الظلم الاجتماعي والقهر السياسي، المسنود بدعم استعماري أجنبي من ناحية أخرى...
ولم نكن وحدنا في رصد هذه العلاقة السببية الوثيقة، بل إن هيئات بحثية أكاديمية وسياسية كثيرة في العالم الغربي، أوروبا وأميركا، رصدت هذه العلاقات ونبهت إلى مخاطرها المتصاعدة، لكن للسياسة والسياسيين رأي آخر...
وعلى سبيل المثال لا الحصر، يقول تقرير بحثي مهم، صدر قبل أيام عن مؤسسة «اكسفورد للبحوث» البريطانية، «إن الحرب على الإرهاب، خصوصا الحرب ضد العراق، ساهمت بدرجة خطيرة في زيادة أخطار تعرض العالم الغربي لهجمات جديدة، كما أن دعم الإسلام السياسي يتزايد في البلاد العربية والإسلامية، بسبب السياسات والإجراءات الحادة والعنيفة التي يتبعها الغرب، الأمر الذي رسخ النظرة المتزايدة للولايات المتحدة الأميركية بأنها العدو الأول والخطر الأكبر على السلام العالمي، وكما نرى فإن التعامل الأميركي الراهن مع الوضع العراقي على أنه جزء من الحرب على الإرهاب، قد أفرخ إرهابا جديدا أشد شراسة»!.
وعلى رغم اتفاقنا مع المقولة الرئيسية الواردة في هذا التقرير، فإننا نعتقد أن الوضع العراقي أكثر تعقيدا مما ذكره، فقد خلق الغزو ثم الاحتلال الأميركي لهذا البلد العربي المهم في مارس/ آذار 2003 وحتى الآن، ردة فعل قوية، جرت في اتجاهين، اتجاه يؤيد هذا الاحتلال تحقيقا لمكاسب فئوية وطائفية، واتجاه مضاد خلق مقاومة وطنية ضد الغزو والاحتلال ومن جاء فوق دباباته ليحكم، وهنا دخلت منظمات إرهابية كثيرة على الخط، لتخلط الأوراق، ما بين مقاومة وطنية مشروعة، وبين منظمات متطرفة لها أفكارها وأساليبها الإرهابية...
والوضع الفلسطيني له هو الآخر خصوصيته، حيث الصراع محتدم، ما بين قوات احتلال إسرائيلية مسلحة، وبين مقاومة وطنية تجد في استخدام السلاح ضد العدو، حقا مشروعا كفلته كل الشرائع والقوانين...
وفي ظل هذا الخلط الشائع مع ازدواجية المعايير، أصبحت المقاومة الوطنية المشروعة، إرهابا في عرف دول الاحتلال وقوى الاستعمار، وأصبحت المقاومة المسلحة، بل والعمليات الانتحارية والهجمات الإرهابية، سلاحا في أيدي القوات المحلية المتمردة والرافضة، لمواجهة الاحتلال والاستعمار الأجنبي، جنبا إلى جنب لإطاحة النظم المحلية المستبدة...
على أن الخلط الأعمق والأخطر للمفاهيم، هو ذلك الذي حكم معادلة الإصلاح الديمقراطي وإطلاق الحريات واحترام حقوق الإنسان من ناحية، ومقاومة الإرهاب الذي يقتل المدنيين ويدمر أمن الشعوب من ناحية أخرى...
في طرف المعادلة الأول، تسعى شعوبنا إلى تحقيق الحلم الديمقراطي، بما في ذلك فك القبضة الاستبدادية لنظم الحكم، وفي الطرف الثاني تتمسك هذه النظم بقبضتها وتزيد من شدتها وقسوتها بحجة مكافحة الإرهاب، حتى لو أدى ذلك إلى مصادرة الحريات وانتهاك الحقوق جهارا نهارا... وبالقانون!.
بمناسبة القوانين، فإن حكوماتنا الرشيدة لم تجد حجة لإصدار تشريعات تصادر الحريات العامة، سوى النموذج الأميركي في إصدار قانون الوطن «باترويت آكت» الشهير، لإطلاق أيدي أجهزة الأمن في الرقابة والمتابعة والمصادرة لبعض حريات المواطنين، تسهيلا للحرب ضد الإرهاب، ونسيت حكوماتنا الرشيدة أن في أميركا التي نتشبه بها في هذا الصدد، قوانين محترمة ودستورا مقدسا وقضاء عادلا، يحمي منظومة حريات المواطنين وحقوقهم، على عكس ما نرى ونسمع...
والخلاصة نحن مع الحرية وضد الإرهاب والاستبداد...
خير الكلام:
يقول الكواكبي:
أصل البلاء هو الاستبداد.
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1685 - الثلثاء 17 أبريل 2007م الموافق 29 ربيع الاول 1428هـ