العدد 1684 - الإثنين 16 أبريل 2007م الموافق 28 ربيع الاول 1428هـ

مهمة الوطنيين غير المنجزة

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

مع كل النقد الذي يمكن أن يوجّه إلى القوميين واليساريين - والليبراليين فيما بعد - ممن اصطُلِح على تسميتهم لاحقا بـ «الوطنيين» أو النخبة الوطنية، إلا أن على المرء أن يعترف بحقيقة مهمة، وهي أن أثمن إنجاز ثقافي واجتماعي تمكنت هذه الجماعة من تحقيقه في تاريخ البحرين الحديث، إنما يتمثل في احتجاجها القوي والمقنع الذي دار حول الانتماء الطائفي. ووفقا لهذا الاحتجاج فإن الهويات الطائفية هويات اعتباطية واصطناعية ويدخل فيها عامل الاحتمال والمصادفة التاريخية بقوة، وأنها ليست كيانات طبيعية وغير قابلة للتحويل والتغيير، بل ثمة أفق أوسع من الطائفة، وهناك دوما إمكان متاح للخروج ولقدرٍ من الاختيار. لقد كان الأهالي يتعاملون مع هوياتهم الطائفية كما لو كانت قدرا محتوما، أو كيانا طبيعيا وأبديا لا تبديل له ولا تحويل، وبفضل تدخّلات الوطنيين أصبح من الممكن التفكير في الانتماء الطائفي على أنه ضرب من ضروب المصادفة التاريخية، تماما كمن يولد في عصرٍ بعينه، وفي مجتمع معين فيكتسب - بالمصادفة وبحكم التنشئة - لغته وعاداته وطرائق السلوك والتفكير السائدة فيه. سيبقى هذا الإرث المكتسب بالمصادفة التاريخية حاضرا بدرجات مختلفة، إلا أنه من المؤكد أن الطبيعة - وكذا الشأن مع القدر بوصفه حتمية مقدسة - لم تجبر أحدا على أن يكون سنيا أو شيعيا. هذا ما نجح الوطنيون في إدارة احتجاج قوي ومقنع بشأنه. وهو - كما قلت - أثمن إنجازاتهم التي تحققت.

وطبقا لهذه المحصّلة، فقد كان على الوطنيين أن يطرحوا الهوية الجديدة «الهوية الوطنية» على أنها هوية ثقافية اعتباطية كالأوليين، إلا أن المرء يختارها - عادة أو هكذا يُفترض - بوعي وبملء إرادته. وكي نكون أكثر دقة ينبغي أن نشير إلى أنه كان هناك قدر من الاختيار عند الناس، إلا أنه قدر ضئيل جدا. وقد تمثّل هذا القدر الضئيل من حرية الاختيار في حالات الخروج على المذهبين معا واعتناق دين آخر، وهو ما عملت عليه إرساليات التبشير الإنجيلية، ونجحت في استقطاب حالات محدودة جدا. ومن جهة أخرى، كان هناك هامش محدود جدا يتيح للأفراد حرية تبديل المذهب والتحول بين الطائفتين، بحيث يصبح السني شيعيا، والشيعي سنيا. وبحكم أن الطائفتين كانتا تعيشان في عزلة اجتماعية، فإن تاريخ البحرين لم يعرف حالات تبديل المذهب إلا بعد الثلاثينات حيث زالت العزلة الاجتماعية، واختلط السنة والشيعة في مدارس مشتركة ومواقع عمل موحدة. ومع هذا كانت حالات تبديل المذهب قليلة ومحدودة - وبحسب محمد الرميحي - فإن «هناك فئة قليلة تتحول من مذهب إلى المذهب الآخر، وفي الغالبية - على رغم صغر العدد أصلا - فإنهم - غالبا - سنة يتحولون إلى المذهب الشيعي» (البحرين: مشكلات التغيير السياسي والاجتماعي، ص 58). ومن اللافت أن واحدة من أقدم حالات تبديل المذهب جرت في العام 1934 ومن شخص من أفراد الأسرة الحاكمة، وذلك حين تشيّع «الشيخ محمد بن عبدالرحمن بن عبدالوهاب آل خليفة - الذي كان يطلق على والده لقب (الوزير) للشيخ عيسى بن علي» (البحرين، ص 360، هامش رقم 1).

لقد تمكّن الوطنيون من إحداث شقوق في جدار الطوائف؛ ما سمح بخروج أفراد من هذه الطوائف، لا كما يحدث في حالات تبديل المذهب، بل صار بإمكان المرء ألا يكون سنيا أو شيعيا، بل «وطنيا»، أي عضو «لا منتميا» إلى هذه الطائفة أو تلك. إلا أن اختلاط السياسي بالثقافي بالايديولوجي قد حمل الوطنيين على تَكرار خطأ الآخرين، وهو التوهم أن «الانتماء الايديولوجي» إلى القومية أو اليسار هو هوية حتمية ونموذجية وتقدمية؛ وهو ما جعلهم يتصادمون مع الهويات الأخرى. وغاب عن هؤلاء أن معضلة الهوية لا تكمن في الانتماء الطائفي، وأنها لا تُحلّ من خلال تحويل الأهالي من انتماء إلى آخر أوسع أو أكثر ضيقا، بل إن الأزمة ترجع من الأساس إلى الهوية ذاتها، أية هوية؛ لأن الهوية بحد ذاتها كيان ينزع إلى الانغلاق والانكفاء على الذات والسعي إلى ترسيم حدود ما ينتمي إليـ «نا» وما ينتمي إليـ «هم»، وهذه حدود يُجرى ترسيمها بصرامة لتمنع الاختلاط مع الهويات الأخرى «الملوثة». هذه طبائع الهوية سواءٌ أكانت طائفية أم وطنية أم قومية أم عرقية أم دينية.

وما يقال عن الفتح الذي أنجزه هؤلاء من خلال فتح مجال التزاوج بين أبناء وبنات الطائفتين، إن هو إلا وجه واحد من حقيقة ما جرى، أما الوجه الآخر فهو أن هؤلاء كانوا يتزاوجون فيما بينهم زواجا مغلقا ايديولوجيا: يساري يقترن بيسارية، وقومي يقترن بقومية، ولاحقا ليبرالي يقترن بليبرالية؛ ما يعني أن هذا الزواج كان داخليا، أي يُجرى داخل حدود الجماعة، مثله مثل حالات التزاوج الداخلية المغلقة التي تحدث بين الشيعة أنفسهم أو بين السنة فيما بينهم. وعلى هذا استمر الزواج الداخلي بين الشيعة، وكذلك بين السنة، وأضيف إليهما زواج داخلي آخر، ولكنه يُجرى بين الوطنيين أنفسهم.

لم يكن هذا النوع من التزاوج علامة على تقبل الآخر المختلف؛ لأنه زواج داخلي مغلق ينعقد بين متشابهين، كل الفرق أن زواج الشيعة والسنة الداخلي كان ينعقد بين متشابهين طائفيا، وهذا ينعقد بين متشابهين ايديولوجيا. إلا أن هذا زواج داخلي مغلق وذاك زواج داخلي مغلق، ولا فضيلة له إلا في كونه يمثّل خرقا لحدود الطوائف. وكان يمكن أن يكون فضيلة كبرى لو اقترن الوطني (السني اللامنتمي) بشيعية منتمية، أو حين يتزوج الشيعي اللامنتمي سنية منتمية. هذا هو الزواج الخارجي الذي يؤمن بالتعايش السلمي وقيم التعددية الثقافية والتسامح مع الآخر المختلف؛ لأن التسامح هو في أن أتقبل الآخر آخرَ مختلفا، أما أن أتقبله بعد أن يكون على شاكلتي فهذا أبعد ما يكون عن حقيقة التسامح، بل هو أشبه بحال شيعي يقترن بسنية ولكن بعد أن تتشيّع، أو سني يقترن بشيعية بعد أن تتسنن. فليس هذا من التسامح في شيء؛ لأنك هنا تتقبل ما هو شبيه بك في الطائفة. وكذلك لم يكن في زواجات الوطنيين من التسامح إلا قليلا؛ لأنها كسابقاتها تنطوي على تقبل لما هو شبيه بالايديولوجيا. هذا يعني أننا لم نذهب بعيدا في تعزيز قيم التعايش والتعددية. نعم، تقدمنا خطوة، إلا أنها خطوة سارت على هَدي آثار الأقدام التي خرجت منها أو عليها. وما هذا إلا من تأثير طبائع الهوية التي تنزع إلى الانغلاق باستمرار.

من المؤكد أن مأسسة الطائفية - أي إنشاء مؤسسات رسمية لإدارة شئون الطوائف - التي أجريت في البحرين منذ العشرينات قد قيّدت حرية هؤلاء في الذهاب بعيدا وخصوصا فيما يتعلق بالأحوال الشخصية من زواج وطلاق وأحكام الإرث وغيرها؛ لأن المرء مهما ذهب بعيدا فمكتوب عليه أن يحط رحاله في مراكز المؤسسات التي تدير الشأن الطائفي، ومكتوب عليه أن يعقد قرانه بطريقة شرعية، وبما أن هذه الطريقة موزعة بين الطريقة الجعفرية والطريقة السنية فإن عليه أن يختار بين هاتين الطريقتين فقط، وبتعبير آخر: عليه أن يعقد قرانه أو يوثقه إما في المحكمة الجعفرية وإما السنية. وبهذا المعنى صارت مأسسة الطائفية تعيد إنتاج الانتماء الطائفي بصورة لا فكاك لها إلا بإنشاء محكمة مدنية للأحوال الشخصية. وهذا المطلب هو الذي جعل الاستنفار هائلا حين طُرِحَ قانون الأحوال الشخصية/ أحكام الأسرة.

ومع هذا فقد كان الوطنيون يخلطون بين الهوية الثقافية والهوية السياسية، أو بين الوطنية الثقافية والوطنية السياسية. في حين كان ينبغي التمييز بين النوعين. ففي الوطنية الثقافية يكون المشتركُ بين الناس التاريخَ الموحدَ، والتقاليدَ والعاداتِ والقيمَ الثقافيةَ المشتركةَ، في حين أن الوطنية السياسية تقوم على أن المواطنين يتقاسمون الحقوق والقيم السياسية والمدنية الموحدة. ففي الوطنية الثقافية يتوحّد الناس من خلال اشتراكهم في هوية ثقافية موحدة، في حين أن المواطنين يتوحدون، في الوطنية السياسية؛ بحكم أنهم يشتركون في قيم وحقوق سياسية ومدنية موحدة. أما الفرق فيظهر في كون الأولى تستلزم أن يتخلّى المرء عن هويته الثقافية ويندمج في هوية ثقافية جديدة إذا ما اراد أن يتمتع بحقوقه السياسية والمدنية. فإذا كنت أجنبيا في دولة عربية وأردت التمتع بكامل حقوقك السياسية والمدنية فالمطلوب أن تتحول لتصير عربيا. والأمر ذاته ينسحب إذا ما كنت مختلفا في دولة إسلامية (شيعية أو سنية) أو مسيحية. أما في الوطنية السياسية - ويسميها البعض «الوطنية المدنية» ولاحقا سنصطلح على تسميتها «الوطنية الدستورية» كما يذهب يورغن هابرماس - فإن من حق المواطن أن يحتفظ بهويته الثقافية، وفي الوقت ذاته تكون له كامل حقوقه السياسية والمدنية. وبهذا المعنى فإن الطائفية بحد ذاتها - أي انقسام الناس إلى طوائف وجماعات - ليست هي المعضلة أمام بناء الدولة، وبحسب آرنت ليبهارت، فإن الطائفية بحد ذاتها لا تهدد استقرار المجتمعات التعددية، بل إن الذي يهدد هذا الاستقرار هو «إخفاق المؤسسات الوطنية في الاعتراف الصريح بالانقسامات والمصالح الطائفية القائمة وحسن التعامل معها» (الديمقراطية التوافقية، ص 218). بل إن الدخول في التحديث السياسي من بوابة استئصال الطائفية قد شتّت الجهود التي كان ينبغي أن تنصرف إلى تجاوز المعوقات الحقيقية أمام بناء الدولة الدستورية ومؤسساتها وقوانينها. ولو كانت بعض الظروف مواتية، لكان بإمكان هؤلاء أن يستفيدوا من الصلابة التي تتمتع بها الطائفية من خلال تحويلها إلى قوة دفع اجتماعي حاشد باتجاه فرض التوافق داخل دولة دستورية. وهو ما تنبّه إليه عبدالهادي خلف حين طرح مفهوم «الوطنية الدستورية» عند يورغن هابرماس. إلا أن هذا المفهوم لم يكن هو المؤسس لأطروحة عبدالهادي خلف؛ لأن هذا يتعارض - في الصميم - مع أطروحات التحديث السياسي وأدبيات الدولة - الأمة التي انطلق منها.

وللحديث صلة في الأسبوع المقبل.

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 1684 - الإثنين 16 أبريل 2007م الموافق 28 ربيع الاول 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً