ليس بعيدا عن الساحل قرب العاصمة السنغالية (دكار) جزيرة تدعى «غورية» وهي المتحف الوحيد في العالم الذي يؤرخ لتجارة العبيد، في هذا المتحف أضابير ووثائق تاريخية، وبنادق قديمة كانت لصيد العبيد، وحجرات معزولة للنساء وأخرى للرجال، كان يقيد كل شخصين ببعضهما بسلاسل حديد، ويدفعون زرافات من بوابة سُمِّيَت لاحقا «بوابة ألا العودة» ومن يسقط من أعلى الممر الضيق، بين البوابة وبطن السفينة، فإنه يسقط في البحر ليس وحده ولكن مع من قُيِّد معه، وكونهما لا يعرفان السباحة يموتان توّا في البحر الهائج. بجانب ذلك صور عن تعذيب الأسرى المشاكسين وأسماء شركات وسفن كانت تنقل البضاعة البشرية إلى العالم الجديد، انه رسم على جبهة البشرية قاتم ومحبط. في الفندق في دكار تسمع اللهجة الأميركية للأفارقة الأميركان، الجو المحيط هو محجة لكل هؤلاء لزيارة ما كان أجدادهم يرتعون فيه من عذاب وقد أخِذوا عنوة إلى العالم الجديد ليبلغ بهم العذاب مبلغه الإنساني لمئات السنين الطوال من بدء حركة الاستعمار في نهاية القرن الثالث عشر إلى نهاية القرن الثامن عشر، عندما وعت الإنسانية بصورة نسبية وأخذت تفوق على صوت المعذبين في الأرض، ولم تنتهِ قطعيا بعد ذلك تجارة النخاسة وتوابعها بل استمرت ذيولها إلى يومنا هذا بأشكال وصور مختلفة وإن مخففة. لعنة تجارة العبيد انتفت من التاريخ الإنساني اليوم ولكنها على فضائع من شاكلة الهولوكوست التي تكررت بعد ذلك بمئات السنين في أوروبا المتحضرة أو حتى محاكم التفتيش.
التحرر من الرق أخذ مسارا إنسانيا طويلا جدا ولم يتخلص من كل آثار العبودية على رغم لبرالية النصف الثاني من القرن العشرين حتى اليوم. ليس الأفارقة كل من حمل عبء عذاب الإنسان للإنسان، لايزال الإنسان يعذب آخاه الإنسان بأشكال مختلفة.
في زيارة رئيس الوزراء الكويتي الأخيرة للسنغال، تجمع عدد من الأطفال والشباب بملابس خفيفة خارج مطار ليبولد سنجور، واللافت ما حملوه من شعارات تقول «أيتام بيت الزكاة الكويتي يرحبون بالضيوف» لا شك أن هذه اللافتات تفرض على المراقب تقصي القصة، وعندما سألت قيل لي إن أعمال بيت الزكاة قد أوقفت منذ فترة بسبب الضغوط الأميركية خوفا من أن تتحول مثل هذه المساعدات الإنسانية إلى «بؤر إرهاب في المستقبل» الافتراض يحتاج إلى نقاش، إلا أن الحقيقة على الأرض تقود إلى القول إن كثيرا من النشاطات الإنسانية التي يقوم بها مسلمون أتقياء قد توقفت بسبب ما جناه عليها بعض المتطرفين، وفقدت قطاعات واسعة من الشعوب المسلمة وغير المسلمة والمحتاجة في إفريقيا موردا يقيهم عذاب الإنسانية الجديد، الفقر المدقع وهو بمثابة عبودية جيدة. أعرف أن مقارنة ذلك بالعبودية التاريخية، قد تكون مقارنة مجحفة وغير متسقة مع المنطق، إلا إني لا أقلل من التماثل، فهناك حرمان وهنا حرمان بشكل آخر.
حكى صديق في الوفد من صميم عمله التنقل بين بلدان إفريقية كثيرة بسبب مشروعات التنمية الكويتية، فقال لما كان في أول سلم حياته العملية، كان يغشى هذه البلدان لفترات زمنية طويلة في السبعينات والثمانينات، وكان أهل الخير يعرفون بزيارته فيودعونه بعض مالهم زكاة إلى الفقراء وأهل الحاجة، يطوف صاحبنا بالمستشفيات ويقتفي أثر الأمهات الصغيرات وغيرهن ممن يعتقد أنهم بحاجة إلى المساعدة، وينفق ما اؤتمن عليه ويزيد من كثرة الحاجة ببعض ماله، وعندما ينتهي يجلس على باب المستشفى ليبكي من فرط الحالات الإنسانية المحتاجة. في السنغال على سبيل المثال، تسعون إلى خمسة وتسعين من شعبها مسلمون وفي غالبيتهم ينتمون إلى طوائف صوفية أربع هي: التيجانية والمريدية والقادرية والاهينية. ومن المعروف أن الصوفية ومعتنقيها يدعون إلى المسالمة والإخاء. وجاءهم الإسلام في ما قبل النصف الأول من القرن الهجري بقليل من خلال دعوات الشمال الإفريقي المسلم وكانوا يعبدون الأوثان (الدكاكير) أو من دون ديانة محددة. والصوفية في إطارها العام «تتمسك بكتاب الله وتقتدي بسنة رسوله، وتحث على أكل الحلال والكف عن الأذى واجتناب الآثام، وأداء الحقوق» وهي قيم كما نرى مسالمة وإنسانية وعظيمة في آن.
إلا أن الحادي عشر من سبتمبر/ ايلول قد غير الموقف من كل ذلك، فبدأت أصوات مسيحية عن علم أو جهل، تتخوف مما تمسه المساعدات الإسلامية لمثل هؤلاء الناس في مواقفهم تجاه الآخرين، خوفا من انتشار «الأصولية» وهو تخوف حقيقي بصرف النظر عن رأينا فيه، لأن الجهد حتى الآن لم يبذل لتنقية الخبيث من الطيب، وهو عمل يحتاج إلى دأب وإقناع، أكثر مما يحتاج إلى زعيق. كما انه عمل يغشي به المنظمات الدولية واللقاءات المختلفة، وسبيله الدعوة الحسنة الأمثولة الطيبة، فالتخوف نفسه يمكن ضبطه، وخصوصا إذا أخذنا ما تعنيه الصوفية من جهة وتاريخ طويل من التآخي من جهة أخرى. لقد خسر الأفارقة من حيث لا يعلم كثيرون، الدعم الإنساني المسلم في السنوات القليلة الماضية، وان لم يخسروا بعد المساعدات التنموية الرسمية، إلا أنها تحتاج إلى جناح آخر هو المنظمات الأهلية وشبه الأهلية التي كانت فاعلة لسنوات طويلة وأتت أكلها الإنسانية.
ومع أهازيج الصوفية وأصوات الأذان وحاجة الفقراء للتعليم والتطبيب أخليت بجرة قلم وبسبب سياسي ساحة من أهم ساحات العمل الخيري في إفريقيا. وقرر أولئك الذين اخترعوا بوابة اللا عودة في جزيرة غورية أن يفتحوا بوابة لا عودة للعمل الخيري، ستظل صورة أيتام بيت الزكاة الكويتي وغيرهم ماثلة للعيان، كما ظلت صور أجدادهم الذين سيقوا قسرا للعالم الجديد، انه الظلم نفسه ترتكبه الحضارة نفسها!
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1684 - الإثنين 16 أبريل 2007م الموافق 28 ربيع الاول 1428هـ